Arabs Without God: Chapter 4

الفصل السادس: امتيازات الدِّين
الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً
الفصل الثامن: الحقّ في الإساءة
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
المصادر والملاحظات
مقدمة
الفصل الأول: إنكار الله وهدمُ المجتمع
الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي
الفصل الثالث: كتابُ الله
الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم
الفصل الخامس: الإلحاد والجنس

الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم

اغالباً ما يتصدّر اعتناقُ الأجانب للإسلام وسائلَ الإعلام الخليجية، لاسيَّما إذا ما كان مجال العمل لديهم يجعلهم مرشحينَ غيرَ محتملين لتغيير دينهم. فقدِ احتفتِ الصحافةُ السعوديةُ مثلاً بخبر اعتناق مغنية الراب الفرنسية "ديامس"Diam’s للإسلام 1، وتقوم الحكومة الإماراتية كل سنة بنشر قائمةٍ بأسماء المقيمين الأجانب الذين اعتنقوا الإسلام، وممّا لا شك فيه أن أنباءً كهذه تعطي المؤمنين شعوراً بأنَّ دينهم أصبح شرعياً ثَبُتت صِحَّته، إلا أنَّ هنالك أنواعاً أخرى من قصص اعتناق الإسلام تحظى باهتمامٍ أقلّ.

كتب "ميرزا غالب"Mirza Ghalib ، وهو هنديُّ الجنسيةِ، في مقالةٍ نُشرت على الإنترنيت قائلاً: "لقد ذهبتُ إلى المملكة العربية السعودية كمسلمٍ تقيٍّ بِقَصْدِ العمل، لكنَّني عدت إلى بلدي الحبيب ملحداً." وأضاف أنَّ رحلته نحو الإلحاد بدأت عندما بدأ زملاؤه العرب بمضايقته "لعدم كونه مسلماً مثالياً"، وقد فاجأه هذا الأمر لأنّه تعلّمَ في الهند أنْ يصلِّيَ خمس مرات في اليوم وأن يقرأ القرآن باللغة العربية بشكل يومي، فقد كان يرى في نفسه مسلماً طيباً وذلك "وفقاً لمعايير الإسلام في الهند."

وحتى ذلك الوقت لم يكنْ غالبْ قد قرأ القرآن سوى باللغة العربية والتي أخبروه بأنها "لغة أهلِ الجنة" وأنَّ هذا سيضفي عليه مزيداً من الفضيلة وإنْ لم يكن يفهم اللغة العربية، ونتيجة لتهكُّم زملائه قرَّر أنْ يقرأ القرآنَ بالأوردو لغتِه الأمِّ، "لكي أستطيعَ أنْ أفهمَ معانيه وأُصبحَ بالتالي مسلماً أفضل وأكثر تقوى." إلَّا أنَّ ما وجده في القرآن صَدَمَهُ بدلاً من ذلك، حيث قال: "بدت لي الكثير من الآيات همجية".

كما كان خائفاً من بعض الممارسات الثقافية التي وجدها في المملكة العربية السعودية، وهي ممارساتٌ تستندُ في الغالبِ إلى أسسٍ دينيةٍ، فيقول:

"شهدتُ رجلاً ناهزَ السابعة والخمسين من العمر، ولَهُ زوجتان على قيد الحياة، وتزوج الثالثة، وهي فتاة أردنية في السابعة عشرة من العمر، (لأن "كُلفة" الفتاة في الأردن أو مهرها أقلُّ نسبياً)، وعند عودته مع عروسه الصَّغيرة، استُقبِل بترحيبٍ حار من قبل أبنائه المثقفين الذين تراوحت أعمارهم بين 40 و50 سنة، فحملوه على أكتافهم وأخذوا يصفقون ويغنَون، حتى أنهم لم يلقوا بالاً بشأن مصير أمهاتهم، وبدا عليهم الابتهاج وهم يحتفون "برجولة" والدهم أمام الجيران والأصدقاء. لم أجدْ تفسيراً لتلك اللغة التي استخدموها لتمجيد "رجولة" والدهمُ التي كانت صريحة جدّاً بل إباحيَّةً، ولا يمكننا لوم افتقارهم للتربية بشأن سلوكٍ كهذا كونهم مثقفين."

وأضاف غالب أنَّه فورَ عودته إلى الهند، وقد أمضى عقداً من الزمن في المملكة العربية السعودية، راح يحاول إقناع والديه الطاعنين في السِّنِّ بأنه قد تمَّ تضليلهما بشأن الإسلام، وهو ما استطاع تحقيقه في نهاية المطاف، فيقول في ذلك:

"كان والدِي يسألني مِراراً كطفل بريء عنْ مصيرِ عبادةِ ثمانين عاماً في ظلِّ الإسلام، وعن الوقت الثمين الذي أمضاه في الصلوات الخمس، وصلوات قيام الليل، وغيرها من المناسكِ الإسلامية. فأواسيهِ بالقول بألّا يقلقَ حول الماضي، وأنَّ الأَوْلَى بهِ السعادةُ، فلقد تحرَّر من خوفِ العقابِ والتعذيبِ المزعومِ عندَ النزْعِ الأخيرِ، وفي القبر، ويومَ القيامة، ورغم أنَّهُ اقتنعَ، إلّا أنَّه لمْ يتحمّلِ الطريقةَ التي تمَّ خداعُه بها من قبل المشايخ طوال حياته، فشكرني لإنقاذه من خوفه من رعب القبر ونار جهنم.

أحزنني موت والدي الحبيب بعد بضعة أشهر من تنويره حول الإسلام حيث كان غير قادر على استيعاب الصدمة التي لم تُضعف إيمانه فحسب، بل ساهمت في تدهور صحته. لقد شعرتُ بالذنب، إلا أنني عندما أستذكر أيامه الأخيرة أشعر أيضاً بالرضا لأنه واجه الموت بثقة ودونما خوف من العذاب ونار الجحيم التي يتم تعليمها في الإسلام. إن الوصول إلى حقيقة الإسلام هي أصعب معركة في حياة المسلم، وقد يكون من الصعب عليه قبول الصدمة التي يتعرض لها عندما يكتشف الحقيقة." 2

إنّ الإلحاد ردٌّ على الدّين، فلولا الدّين لن يصبح المرء ملحداً، وسيصبح الله مفهوماً مجهولاً، ولن يكون هنالك سبب محدد لأيّ كان ليتساءل حول وجوده من عدمه، وبالتالي سيتحول كلٌّ من الإيمان والإلحاد إلى إنكار. لقد كان هذا مصيرَ الأديان السابقة التي تخلى عنها الناس اليوم، إذ لا يمضي أحد الآن وقتَه ليجادل في موضوع آلهة اليونان والرومان القديمة لأنها تبخرت وأصبحَتْ غير ملائمة لوقتنا الحاضر منذ وقت طويل.

قد يكون دور الدّين في تطور الإلحاد، بل وتعزيزه بشكل غير مقصود، واضحاً جداً ولا يمكن إغفاله بسهولة، لكن من المهم أنْ نبقيَ هذا الأمر في أذهاننا عند دراسة الأسباب التي تدفع العرب إلى الإلحاد وكيفية قيامهم بذلك. إن كون الإنسان ملحداً يعني أنه لا يؤمن بالله، ولكن أن يتحول المرءُ إلى الإلحاد فذلك يتضمن رفضاً لله بوعيٍ منه، وبالتالي يمكن وصف بعض غير المؤمنين بأنّهم ملحدون في الأساس (كونَهم لم يكونوا مؤمنين وقرّروا الإلحاد)، ولأن تأثير الدّين على حياتهم كان محدوداً أو غير موجودٍ أصلاً، كما أنَّ الله بالنسبة لهم لا يكاد يختلف عن "زيوس" أو "أبولو." 3

غير أنَّ الإلحاد في البلدان العربية غالباً ما يكون خياراً يتخذه المرء عن عَمْد، وهو خَيارٌ عليهم دفعُ ثمن اتخاذه. إنّ الإيمان هو الأمر السائد، فيكون وفي كثير من الحالات موجوداً أصلاً، ذلك أنّ المجتمع لا يتوقع من الناس أنْ يؤمنوا فحسب، بل ويأخذ على عاتقه حمايتهم من الأفكار التي يمكن أن تقودهم إلى الشك، ورغم هذه الضغوطات، يغرد بعضهم خارج السرب، وبأعداد متزايدة كما يبدو، فكيف يحدث ذلك؟

يقول سعيد كيّاني، وهو ملحد إماراتي:

"لا أتفق مع الفرضية التي تقول بإن فقدان الإيمان بالله خاصةً، أو بالآلهة عموماً مردّه سبب واحد، فقد وجدت من تجربتي الخاصة وتجارب الآخرين أن الأمر ناتج عن عملية معقدة تشمل عدة عومل في داخلك وأخرى مرتبطةٍ بالبيئة المحيطة بك 4 ... إنها رحلة داخلية (أي داخل النفس) عن كيفية معالجة الأفكار والأحداث وعن مشاعر الإنسان تجاه الاستنتاجات التي يتوصل إليها، فالأمر أشبه بوجود كومتين من القش تُوزنان على مقياس ما، يكون فيه نوعيةُ وبنيةُ ومادةُ المقياس هي ما تحدّد تديّن الإنسان." 5

تشير الأبحاث التي أُجريت في الولايات المتحدة إلى أنَّ البيئة الدينية "تلعب دوراً أساسياً في تشكيل هوية الملحد،" فمِن بين أربعين أمريكياً أُجريت معهم مقابلة للدراسة، تبين أن خمسة وثلاثين تمت تنشئتهم في بيئة تراوحت بين "متدينة إلى حد ما" وأُخرى "متشددة". كما أشارت دراسة أجراها "جيس سميث "Jesse Smith من جامعة كولورادو أنه: "حتى أولئك القلة الذين نشأوا في أُسرٍ ليست متدينة جداً، أو ليست متدينة أبداً، قد واجهوا وتأثروا بمستويات مرتفعة من الورع والإيمان الذَينِ كانا حاضرين في البيئة العامة للثقافة الأمريكية." 6

وتأتي نتائج الدراسة التي أجراها مركز "بيو" للأبحاث سنة 2010 كشاهد آخر على أن الدّين يمكن أن يفضي إلى الإلحاد، فقد وجدت الدراسة أنه لدى إجراء اختبار في المعرفة الدينية تَبيّن أن أداء الملحدين واللاأدريين الأمريكيين كان أفضل من أداء البروتستانت والكاثوليك، وقد تم تفسير هذه النتيجة جزئياً بسبب الفروق في مستويات التعليم العامة لدى الذين خضعوا للاختبار 7. وبحسب ما أشار إليه أحد القائمين على الدراسة، فقد نشأ ثلاثة أرباع الملحدين واللاأدريين كمسيحيين، وتشير معرفتهم الدينية أنهم محّصوا دينهم بعمق قبل قرارهم بالتخلي عنه. وقد دفع هذا الأمر "ديف سيلفرمان"Dave Silverman من منظمة الملحدين الأمريكيين أنْ يعلق قائلاً:

"لطالما سمعت أنّ الملحدين يعرفون من الدّين أكثر من المتدينين أنفسهم، وذلك أنّ الإلحاد هو نتيجةٌ لتلك المعرفة، لا للافتقار إليها. لقد أَعطيتُ الإنجيل لابنتي، فبتلك الطريقة يُصنَع الملحدون". 8

وبناءً على المقابلات التي أجراها مع ملحدين أمريكيين حول رحلتهم إلى الإلحاد، اقترح "سميث" عمليةً من أربع مراحل هي:

1. نقطة البداية: الوجود المطلق للإيمان بإله واحد.

2. التشكيك بالإيمان بإله واحد.

3. رفض الإيمان بوجود إله واحد.

4. "الظهور" (أو الإعلان) كملحد.

وقد أكد هذا النمطَ عددٌ كبيرٌ من غير المؤمنين العرب ممن حاورتهم بغرض تأليف هذا الكتاب، رغم وجود بعض الفروق بينهم، فقد سردوا قصصاً مماثلة عن التخلّي التدريجي عن الدّين، واستغرق ردَّتهم تلك سنوات في بعض الأحيان، أي أنّ التحول إلى الإلحاد لم يكن لحظةَ تحولٍ مفاجئة، وقد أشار الجميع تقريباً إلى وجود جانب مهمٍّ في هذا الأمر، هو أنَّ مواجهتهم للدين كانتِ الحافزَ الأول للشك لديهم، وهو ذلك الشعور بأنّ هنالك أمراً ما في هذا الدّين لم يكن صحيحاً تماماً وفق ما تعلموه.

غالباً ما يبدأ الأمر لديهم بسؤال بسيط حول إحدى مسائل التعليم الديني التي صدمتهم بكونها غير منطقية أو متناقضةً في ذاتها، فراحوا يبحثون عن إجابةٍ لهذه السؤال، متأملين بصدق أن يجدوا إجابة له، وبدلاً من الحصول على إجابة، ولَّدتْ عملية الاستقصاء وراء ذلك السؤال أسئلةً وشكوكاً جديدة.

رغم أن الأسئلة المتعلقة بالعقيدة كانت نقطة البداية المعتادة، إلا أنّ بعضاً منهم أشار إلى أنهم تأثروا بالطريقة التي يمَارس بها الدّين، فاستشهد بعضهم بالطريقة التي تُعامل بها المرأة، واعتبر ناشطٌ مصري أن الدّين يمثّل عائقاً في وجه الثورة، إلا أنّ هذه لم تكن نقطة البداية المعتادة عموماً. لقد لعبت مناظرات العِلم في مواجهة الدّين - والتي أصبحت شائعة جداً في الغرب - دوراً صغيراً، بل لا يُذكر حتى، في المراحل الأولية للتشكيك بالدين عند العرب الذين أَجريتُ مقابلاتٍ معهم، إلا أن الأمر يختلف مع مَنْ لديهم اهتمام محدد بالعلم. وقد تحول بعضهم لاحقاً إلى كتب “ريتشارد داوكينزRichard Dawkins" و“كريستوفر هيتشنزChristopher Hitchens " وغيرِهما من الملحدين البارزين، إلّا أنّ التأثير في تلك المرحلة كان بالأساس لتعزيز الشكوك الموجودة أصلاً، ولتوفير بيئةٍ أكثر تماسكاً لإلحادهم المتزايد. يقول جمال، وهو ملحد مصري: "لقد رأيت عدداً من الأشخاص، من طلاب علم الأحياء والطب، ممّن بدوا كقرّاءً متمرّسين ومطّلعين على أحدث الكتب التي تشكك بوجود الله على أساس علمي، إلا أنّ معظم من عرفتُهم ممن تحولوا إلى الإلحاد هنا في مصر قد فعلوا ذلك لأسباب فكرية أو منطقية أو اجتماعية، أو لأسباب فلسفية بنسبة أكبر." 9

وتتحدث دراسة "سميث" عن أمريكيين شككوا في "الإيمان بوجود إله واحد،" ومن ثم نبذوا هذا الإيمان وتحولوا إلى الإلحاد. إلا أنّ هذا الأمر ليس دقيقاً جداً في حالة الملحدين العرب ممّن تكلمتُ معهم، ذلك أن أسئلتهم لم تكن في بادئ الأمر حول إمكانية وجود الله بقدر ما كانت تتعلق بوجود الله على النحو الذي ساقته الأديان السماوية. ورغم أن بعضهم يرفض الأديان السماوية، إلا أنهم حافظوا على إيمان مُبهم بنوع من الألوهية، أو عبّروا عن توقِهم إلى "الروحانية."

إنَّ أكثر ما استشهد به الملحدون العرب خلال المقابلات التي أجريتها معهم على أنه الخطوة الأولى على طريق الإلحاد هو الغياب الواضح للعدالة الإلهية، فالصورة التي تشكلت لديهم كانت صورةَ إله سريع الغضب، ولاعقلاني أحياناً، وأنه يسلك تقريباً مسلك ديكتاتور عربي، أو ربِّ أسرة محافظ، فيتخذ قرارات استبدادية متلهفاً لمعاقبة الناس لأدنى سبب، كما أنّ الوعيد الرهيب الذي طالما تكرر في القرآن حول ما سيَحِلُّ بغير المؤمنين قد أضفت انطباعاً قوياً عند هؤلاء الأشخاص في مرحلة الطفولة وبشكل واضح.

يقول محمد رمضان، وهو مصري الجنسية: "لقد كانت فكرة الجحيم الأبدي مزعجة جداً بالنسبة لي. كنتُ في التاسعة من عمري حبن سألت والديّ لمَ سيُنزل الله علينا عقوبة أزليّة في حين أننا نعيش بمعدل وسطي قدره سبعون سنة فقط."

أمّا أحمد سعيد، وهو يمني الجنسية، فقد سأل معلميه في المدرسة عن سبب معاقبة الله للناس لمجرد عدم الإيمان به، إلا أن الإجابات لم تكن مقنِعةً أبداً بالنسبة له حيث يقول: "كانوا يجيبونني قائلين بأن هذا ما يقوله الله وحسب، وبالتالي لا يُفترض بنا أن نسأل عن السبب، وقد اعتدتُ دائماً أن أجادل بأنني لو ولدتُ في بلد علماني، ولو أنني لم أولد في اليمن أو في بلد شرق أوسطي لما كنتُ مسلماً. فلو أنني ولدتُ في الهند مثلاً، لكانت هنالك فرصة كبيرة بأن أعبدَ بقرة، وكوني قد نشأت كمسلم هو أمر لم أختره، فالمسألة هنا هي مسألة تموضع ديموغرافي."

هناك سعودي يُعرف على موقع "تويتر" باسم "ملحد عربي" كان يؤرقه سبب معاقبة الله للناس غير المسلمين ممّن يبدون لطيفين ومحتشمين، وعند وصوله إلى الولايات المتحدة للدراسة في كلية يسوعية، بدأ يدرك "كيف أن جميع الأديان متشابهة" في تعاليمها الأساسية. حيث عقّب قائلاً: "نتعلم في الإسلام بأن غير المسلمين سيذهبون إلى الجحيم جميعاً. وكان لدي جاران يهوديان كانا ألطف زوجين قابلتهما، فجعلني هذا الأمر أتساءل لماذا عساهما يذهبان إلى الجحيم؟ فبدأ الإسلام ينهار أمام ناظريّ فجأة."

أما "راماست"Ramast وهو مصري نشأ في كنيسة قبطية ويرفض أن يوصف بالعربي فيقول: "يسمي الناس مصر بالبلد العربي لأسباب دينية لا تنطبق عليّ،" وقد واجهَ المشكلة ذاتها، ويقول:

"لقد بدأ الأمر بسؤال بسيط جداً: إذا كان الأخيار سيدخلون الجنة والأشرار سيدخلون النار، فما الذي يجعل الإنسان من الأخيار وما الذي يجعله من الأشرار؟ أهي البيئة؟ ولكن الله هو من خلق تلك البيئة. هل هي طريقة تربيتنا؟ ولكن الله هو من اختار والديّ الإنسان والطريقة التي سينشأ عليها. ومهما كان السبب الذي ستأتي على ذكره، ستقول في النهاية: "ولكن الله هو من خلق ذلك،" وبالتالي ووفق ما يمليه علينا المنطق، لا يحملُ المرء وِزر كونه طيباً أو سيئاً. لم أستطع أن أجد إجابة على هذا السؤال، إلا أنّ هذا الأمر لم يجعلني أتغير في الحال، بل جعلني أشك فقط، وأُعْمِلَ عقلي قليلاً. كان ذلك حين كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري، وقد كنت متديناً جداً وأفكر كثيراً في هذه الأمور."

ربما تكون أسئلة كهذه قديمة قدم التوحيد ذاته، حيث توضح قصة عمرها ألف سنة هذا اللغز. تدور القصة حول نقاش جرى بين أبو علي محمد الجباعي، وهو عالم ديني من المعتزلة توفي نحو سنة 915م، وبين تلميذه أبو الحسن الأشعري"

"عرض الأشعري على الجباعي مسألة أخوةٍ ثلاثة، أحدهم مؤمن ومخلصٌ وفاضل وتقي، والثاني كافر وفاسق وفاسد، أما الأخ الثالث فما يزال طفلاً صغيراً. توفي الإخوة الثلاثة جميعاً، وكان الأشعري يرغب أن يعرف ما سيحِلُّ بهم بعد الموت، فأجابه الجباعي قائلاً: "ينال الأخ التقيّ مكانة عالية في الجنة، أما الكافر فَيُلقى في قَعر جهنم، بينما ينال الطفل الصغير منزلة الأعراف (ممن نجَوا من الجحيم ولم ينالوا الجنة).

فقال الأشعري: لنفترض الآن بأن الطفل كان يرغب بأن يرقى إلى المنزلة التي نالها أخوه التقيّ، هل سيُسمح له بذلك؟

فأجاب الجباعي: لا، بل سيقول الله له: (نال أخوك هذه المنزلة بوافرِ عملٍ في طاعة الله، أما أنت فلم تقم بأعمال كهذه لتنال هذه المنزلة).

فقال الأشعري: لنفترض إذاً أنّ الطفل قال: لكن ذلك ليس ذنبي، فأنت لم تُطل في عمري، كما أنك لم تتترك لي سبيلا لأثبتَ طاعتي.

فَردّ الجباعي: في تلك الحالة سيقول الله: كنتُ أعلم بأنني لو أطلت في عمرك، لكنت عصيتني، وجنيتً على نفسك بعذاب الجحيم الشديد، فما قمت به هو في صالحك.

قال الأشعري عندها: حسناً، افترضْ بأن الأخ الكافر قال: يا إله الكون، طالما أنك تعلم ما كان ينتظر أخي الصغير، فلابد وأنك تعلم ما كان ينتظرني، فلم قضيتَ في صالحه وليس في صالحي أنا؟ فبُهِتَ الجباعي ولم يجد ما يردُّ به على هذا السؤال." 10

انتاب المصرية ريم عبد الرازق الفضول لتعرف مصير الحيوانات في نظام الجزاء والعقاب، فتقول: "نتعلم في الإسلام بأن البشر يخضعون لنوع من الاختبار لنعرف فيما إذا كانوا سيذهبون إلى الجحيم أو الجنة، وهنالك الكثير من المعاناة في هذا العالم، وكلمّا تحدثتُ عن معاناة الإنسان تُعزى هذه المعاناة إلى ذلك الاختبار. إلا أنني عندما أتحدث عن الحيوانات لا أفهم كيف أن الله سيخلق هذا الكمّ الهائل من المعاناة دونما سبب." وعندما كانت طفلة تساءلت ريم عن سبب قيام الحيوانات بافتراس حيوانات أخرى، فقيل لها بأن الحيوانات التي تم افتراسها ستنتقم في الآخرة ولكنها ستتحول بعد ذلك إلى تراب. أشارت ريم قائلة: "لم يكن الأمر منطقياً بالنسبة لي".

أما الكويتي عبد الله فيقول:

"الأمر الأول الذي بدأت بالتساؤل حوله هو ماهية الله تحديداً، وذلك عندما كنت في الثانية عشرة من عمري تقريباً، ما هو كُنْهُ الله؟ إلا أن الأمور لم تتضح لدي، لأن الإجابة التي كنت أحصل عليها دائماً كانت: ستفهم ذلك حين تفارق الحياة. وأشير في حديثي هذا إلى والدتي التي كان من المفترض أن تكون خبيرة بشؤون الإيمان بحد ذاته، فبدا هذا الكلام بلا معنى، وبدأ الأمر يتطور من تلك النقطة نوعاً ما وببطء حتى أصبحتُ في السادسة عشرة من العمر حين توفي أحد أصدقائي في حادث سير، عندها بدأتُ أتساءل أكثر وأكثر، وبدأ الأمر يسيطر على حياتي نوعاً ما، وكثيراً ما كنت أردد: أريد أن أعرف، أريد أن أعرف."

وعندما يسأل الناس أسئلة كهذه، غالباً ما تدفعهم الردود التي يحصلون عليها من الآخرين أكثر باتجاه الإلحاد، ويقول أحمد سعيد في هذا الإطار: "لدى الناس وجهة نظر تقول دائماً: الله يعلم أما نحن فلا."

في مصر، وجدت ريم عبد الرازق أن المسألة لا تتعلق بالقول: "لا تسأل أسئلة كهذه" فحسب، بل أضافت بأنّ في ردود الناس من حولها نوع من العدائية، حيث تقول: "زاد هذا من فضولي، وذلك لأنني أصبحت في موقف دفاعي، وبدا الأمر كما لو كنت أهاجمهم، وهو ما لم أفعله. كنت أؤمن بقوة بأنني على حق، وهذا ما كان يثير حفيظتهم، فهُم لم يرغبوا بالتفكير في هذه الأمور." إلا أنّ الدفاع ليس الرد الوحيد، حيث تناولت مقالة في صحيفة الوطن السعودية الحديث عن معلمة سعودية في العشرينيات من عمرها، حاولتْ أن تناقش شكوكها مع أحد العلماء، إلّا أنّه ردّ عليها قائلاً بأنها مريضة عقليّاً وبحاجة إلى علاج. 11

كما ومرّت نبيلة في البحرين بتجربة غير عادية كونها تربّت على يدي والديها اللذَان كانا "ملحدين أساساً،" فوالدها كان منتسبا لمجموعة سريّة ماركسية لينينيّة، بينما كانت أمها ناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة، إلا أنهم ولأسباب تتعلق بسلامتهم أخفَوا هذا الأمر عن أطفالهم. وتقول نبيلة: "لقد كانوا مصرِّين على إبقاء كلِّ شيء طيّ الكتمان،" ولذلك كانت نبيلة تفترض أنها كانت مسلمة في السنوات الأولى من حياتها، حالُها حال غيرها من الأطفال في مدرستها، ولكن رغم ذلك أثارتْ أمور متعلقة بحياتها مع أسرتها حيرتها، فتقول:

"اعتدتُ أن أطرح الأسئلة التالية على والديّ طوال الوقت: لماذا لا تؤدون الصلاة؟ لماذا لا تصومون؟ وكان جواب أمي: نحن نصلي داخل غرفتنا،" وعندما كنتُ أسألها لماذا لا تصومين إذاً؟ كانت تقول: "أعاني من قرحة ووالدك لا يستطيع أن يقلع عن التدخين،" لقد صدّقت هذه الأعذار لفترة على الرغم من كونها سخيفة جداً.

لقد سمعنا بالطبع قصصاً هنا وهناك عن أصدقاء والدي؛ فقد نشأنا مع طفلين كانا بمثابة أخوين لنا، وكانا قد فقدا والديهما في السجن سنة 1986، وكنا نتساءل دائماً لماذا لم يكن لديهما أب، فأخبرونا بأنه استشهد وهو يقاتل في فلسطين، أعتقد أن والدي أخبرني عندما كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري بأنه توفي في السجن في البحرين، إلا أنه لم يعطني تفاصيل حينها عن سبب وفاته أو كيف توفي، ولم تكن لدي فكرة عن وجود أحزاب فعلية تعمل بشكل سري."

أخذت جدّة نبيلة على عاتقها في هذه الأثناء مهمة تحويلها إلى مسلمة صالحة، حيث شجعتها على حفظ القرآن غيباً، فتقول:

"طلبت مني جدتي أن أحفظه عن ظهر قلب، وقد حاولتُ ذلك، إلا أنني لم أستطع، فسألتني: كيف إذن تحفظين واجبك المدرسي؟ فأجبت: "لأنني أفهمه، ولكنني لا أفهم هذا (تعني القرآن).

عندئذٍ راحت جدتي تحاول أن تشرح لي القرآن، وعندها بدأت تراودني هذه الأسئلة، فأخبرتني بأن الله خلق كل شيء ويعلم الغيب وكل شيء، وأموراً بهذا المعنى.

فقلت لها: على رِسْلكِ. تقولين بأن الله يعلم كل شيء، إذاً فهو يعلم بأنني سأولد ويعلم كل فعل سأقوم به وكل ما سأقوله، وبالتالي إذا كان يعلم كل شيء فهو يعلم بأني سأرتكب هذا الخطأ، فلِمَ يعاقبني عليه؟

فردّت قائلة: "لا، الأمر ليس على هذا النحو؛ فقد هداكِ النّجدين وعليك أن تختاري.

فقلت: إذاً فهو لا يعلم ماذا سأختار وبالتالي هو لا يعلم كل شيء.

على هذا النحو بدأت تراودني الشكوك. كيف يمكنك القول بأنه غفور ورحيم وما إلى هنالك في حين أنه شديد العقاب؟ لم يكن الأمر منطقياً بالنسبة لي."

أما "سارة واي"، وهي سورية من أسرة علوية تعيش في الكويت، فقد واجهتْ مشكلات تتعلق بالقرآن، لاسيما ما كانت تعتبره افتقار القرآن للوضوح عندما بدأت بقراءته بنفسها، حيث تقول: "المشكلات كانت بالنسبة لي أكثر من كونها تتعلق بالله، فهناك مسائل في القرآن جعلتني أفكر: لماذا لا يكون القرآن واضحاً فحسب؟ إذْ إن هنالك تناقضات فيه، وكلُّ الفكرة المتعلقة بالله هي أنه يُفترض به أن يكون شخصاً ما أو شيء ما يتصف بالألوهية، ولكن الأخطاء لا تليق بما هو إلهي، وحتى أبسط الأخطاء تجعله باطلاً."

وتواصل قائلة: "قبل أن أقرأ القرآن، لم يكن لدي فكرة بوجود ما يُسمى بمسلم سابق، لقد اعتقدت بأنني كنت مسلمة سيئة فحسب، ومن ثم فكرت: مهلاً! لا يجب أن يكون الأمر على هذا النحو." غير أنّ سارة تفضّل اليوم أن تتم مناداتها بملحدة وليس مسلمة سابقة حيث تقول: "كلما فكّرتُ بالموضوع أكثر، كلما ازداد التساؤل عندي لماذا يجب أن أُدعى مسلمة سابقة وهو أمر لم أختره بالأصل؟ ورغم أني أظهرتُ اهتمامي بالدين في مراحل كثيرة من حياتي، إلا أنني عندما أنظر إلى الماضي أشعر بأني لم أكن أظهر اهتمامي بالدين لأنه كان لدي إيمان، بل لأن الأمر يتعلق بضغط الأقران (وهي رغبة قوية في تقليد تصرفات من هم في سنّك). 12

قال بعضُ الأشخاص العرب الذين أجريتُ مقابلات معهم بغرض تأليف هذا الكتاب أنّ تخليهم عن الدين كان في الغالب رحلة خاصة ومدروسة وأحياناً تخللها الوحدة، وقد كان الأمر إلى حد كبير عملية فكرية تكونت بفعل تجاربهم الشخصية المتعلقة بالدين، ولو بدرجات متفاوتة. وخلافاً للفكرة السائدة في الشرق الأوسط، لم يَعتبر أحد أنّ الإلحاد عذر للانغماس في الملذات. ومن الأفكار السائدة الأخرى - والتي عادةً ما تأخذ طابع نظرية المؤامرة - هي أنّ الملحدين العرب استسلموا "لسياسة إضفاء طابع الثقافة الغربية" أو "التأثيرات الأجنبية" عليهم. يبدو أنّ هناك درجة من الحقيقة في هذا الأمر إذا ما تم استبعاد عنصر المؤامرة، رغم أنّ هذا لا ينطبق بالتأكيد على جميع الحالات، وفي تلك التي ينطبق عليها هذا الأمر فإنه يُرّدُّ عادةً إلى انفتاح في عقول العرب نتيجة احتكاكهم بغير المسلمين، أو لوجود أساليب جديدة للتفكير، أكثر من كونها نتيجة للمحاولات المباشرة من قبل الأجانب لإغرائهم بالابتعاد عن الإسلام.

فعلى سبيل المثال، يرى أحمد سعيد، وهو يمني الجنسية، أنّ التغير في معتقداته قد حصل عندما بدأ بالقراءة "خارج منظور الإسلام،" وعندما راحَ يخوض في نقاشات على الإنترنيت "مع أشخاص ملحدين وربوبيين ولاأدريين." ويشير سعيد إلى أنّ النقاشات كانت تجري باللغة الإنكليزية "لأن معظم الأشخاص الذين يتحدثون العربية مسلمون، وفي تلك المرحلة لم أكن أرغب بالجدال مع مسلمين، لأن الأمر سيكون بلا جدوى. أردتُ أنْ أرى الموضوع من وجهة نظر ومنظور مختلفين." انضمّ سعيد إلى منتدى مناقشة على الإنترنيت يحمل اسم "الملحد مقابل المؤمن" الذي كان يضّم 30،000 عضو. يقول سعيد: "أمضيتُ ساعات طوال في هذه المجموعة، وكنت مؤمناً بنسبة 100% عند انضمامي إليها، كنت أؤمن بالله، إلا أنني وجدت أنّي لا أمتلك أي دليل لأثبت أنّ الله موجود. ومن ثم أدركت أن جميع الأديان ينظمها أناس وأن فكرة الله هي من صنع الإنسان."

أما محمد رمضان فيقول إنّ عقله تفتّح بعد أنِ انتقل من مدرسة حكومية إلى جامعة خاصة في مصر حيث يقول: "بدأتُ أرى أشخاصاً مختلفين تماماً، أشخاصاً أكثر ثراءً ممن سافروا إلى الكثير من الأماكن مثل كندا. كانوا مصريين من أصول مختلطة وذوي أفكار مختلفة كلياً." وقد أتى التأثير الأكبر على آرائه في ذلك الوقت من قبل صديق شاركه سكنه الجامعي، حيث يقول: "كان هذا الصديق ملحداً لكني لم أكن أعلم بذلك حينها، تجادلنا كثيراً وكنت في الطرف الآخر للحوار، إلا أنني أدركت في الوقت ذاته أني كنت أتحدث مع شخص عزز بعضاً من الشكوك في داخلي." ويعقب محمد قائلاً:

"كان النقاش الأول يدور حول أمور محددة، مقبولة أخلاقياً من قبل الدائرة الاجتماعية المحيطة بك فقط، ومن ثم أتيتُ بفكرة سخيفة من قبيل: هل كنتَ ستسمح لأختك أن ترتدي ملابس سباحة في مكان ما في أوروبا؟ فأجابني صديقي: نعم، بالطبع.

وعندما قال ذلك سألته: ماذا تعني؟ كيف تسمح لأختك أن تعرض نفسها بهذا الشكل؟ لقد كان جدالنا طويلاً حول الأخلاق والسلوك الأخلاقي، وكان هذا بشكل أساسي من المحفزات الأولى بالنسبة لي."

ومما يثير الانتباه أنّ أحد أقارب محمد أصبحَ ملحداً بطريقة مختلفة تماماً رغم أنه كان سلفياً متشدداً، حيث يقول محمد: "كانت تلك القصة ذات تأثير قوي بالنسبة لي لأنه لم يسافر ولم يقابل ملحداً قط، كان دائماً في القرية حتى أنهى دراساته، لقد اكتشف هذا الأمر بنفسه."

ولدى محمد أيضاً نظرية حول ما حدث لأحد أقربائه، فبعض المسلمين يحافظون على إيمانهم بتفسير القرآن بمرونة، على عكس السلفيين الذين لا يا يمكنهم ذلك، حيث يقول محمد: "لا يستطيع السلفيون أنْ يستخدموا حجة عدم قراءة القرآن بالمعنى الحرفي، فهم يعتبرون القرآن بأنه كلمة الله المباشرة ويجب أن نأخذه بشكل حرفي وأن نتبعه كلمة بكلمة." إن هذه الطريقة القائمة على مبدأ الكلّ أو لا شيء تعني أنهم إذا وجدوا في الآيات القرآنية شيئاً يصعب قبوله فإن البنية الأيديولوجية بكاملها ستكون عرضة للانهيار. يقول محمد إنّ قريبه يبدو أكثر سعادةً الآن إلا أن "وجوده في مصر ومن حوله أسرته، وما إلى هنالك تمنعه من فعل كل ما يرغب به، فمن بين الأمور التي أقدمَ عليها هو حلقهُ للحيته، وهو الأمر الذي شكّل صدمة كبيرة لأسرته، كما أنه توقف عن أداء الصلاة وأصبح الأمر واضحاً أنّه لا يصلي، لقد أخبرني في آخر حديث لنا: "تذكّر أن تحضر معك القليل من لحم الخنزير."

ينحدر هاشم الشامي من أسرة سنية مسلمة في سوريا، ولكنها ليست أسرة متدينةَ على وجه خاص، حيث يقول بأنّ الدّين بالنسبة لهم "مبدأ ثقافي وتقليدي،" فوالده الذي ليس لديه هواجس حول شرب الكحول يحضرُ صلوات الجمعة ولكن كحدث اجتماعي في المقام الأول.

إلا أنّ هاشم أُرسِل للدراسة في إحدى المدارس الابتدائية الكثيرة في دمشق والتي تنظّمها حركة دينية تُدعى "القبيسيات" وهي حركة تديرها النساء وتدعمُ نظام الأسد. ويوضح هاشم قائلاً: "إن نسختهم عن الإسلام مشابهة كثيراً للاتجاه العام السائد، وهي نسخة غير معقدة، مقبولة من قبل الحكومة بشكل عام."

وكون الحركة ليست مثيرة للجدل، فإنها لا تذكر أنّ القرآن قد أُنزل على النبي محمد تدريجياً، أي عبر فترة طويلة من الزمن، وليس ككتاب كامل، وترى بأنّ هناك نسخاً متعددة من القرآن لفترة ما من الزمن، كما ولا تتضمن الحديث عن فروق ضمن الإسلام بين السنة والشيعة والعلوية وغيرها. لم يدرك هاشم ما اعتبره حقائق غير ملائمة حول الدّين وتنوعه إلى أن دخل المدرسة الثانوية.

لقد كان إظهار الإسلام بهذه الطريقة ككيان صلب (أو كوحدة متراصة) سياسةً تعمّد نظام الأسد اتباعها، وذلك لأسباب سياسية (سيتم مناقشتها في الفصل السادس). الآن، وبعد التفكير بهذا الموضوع، يشعر هاشم أنه تم الكذب عليه وعلى زملائه في المدرسة، فيقول: "لقد عاملونا بفوقية بصفتنا مسلمين سنّة، ولم يخبرونا الحقيقة وذلك نتيجة لافتراض العلماء القائل بأنّ هناك أموراً يصعب الخوض فيها كالخلافات بين صحابة النبي وعليٍّ زوج ابنته، والتي أخرجتْ الشيعة من السنة، وكيف تم نقل القرآن، كما أنهم علمونا نسخة واحدة من الإسلام ولم يخبرونا عن الدروز والشيعة والإسماعيليين وغيرهم. لم تشأ الحكومة ريد حصول هكذا نقاشات، كما لم تكن هنالك حواراتٌ على صعيد الأسرة أو المجتمع. أحسستُ بوجود خطبٍ جوهري بشكل ما لأنهم لم يُطلعونا على تلك الأمور منذ البداية، وأنَّ هنالك الكثير من نقاط الضعف في الدّين يرغبون بإخفائها عنا قدر المستطاع لكي نعتنق الدّين كما يُعرض علينا، وحين يأتي الوقت الذي تكتشف فيه أن الكثير من المسائل يجب مناقشتها، تكون العقيدة قد ترسخت عميقاً فينا."

إلا أنّ هاشم عندما كَبُرَ مرّ عبر مراحل جعلته أقرب للدين، لكنه ابتعد عنه في النهاية بفعل أناس كان لهم أثرٌ في ذلك، وعندما أصبح في سنّ السادسة عشرة، وأثناء العطل الصيفية، انخرط ولفترة قصيرة فيما كان يُعرف بشكل رسميّ بحلقات حافظ الأسد الدينية (معاهد الأسد لتحفيظ القرآن)، فيقول في ذلك:

"كانوا يعلمونك كيف تقرأ القرآن بشكل صحيح وكيف تحفظه غيباً، كما كانوا يعلمونك الحديث وكيف تكون مسلماً صالحاً بالمعنى العامّ للكلمة، كما كان هناك نشاطات اجتماعية ورياضة ونزهات أيضاً. بدأ بعض أصدقائي يذهب إلى هناك وسألوني فيما إذا كنت أرغب بالذهاب معهم، ووافق والداي على ذلك في بادئ الامر."

وافقتْ الحكومة السورية على البرنامج حيث تم تعيين الدعاة الدينيين من قبل وزارة الأوقاف، إلا أن غالبية القائمين على التعليم كانوا شبّاناً صغار السن في بداية العشرينيات. يضيف هاشم:

"بدأوا يحاولون حثّي على الذهاب إلى هنالك بانتظام أكثر، وسرعان ما التزمتُ بذلك لمرتين في اليوم، ثم لثلاث مرات، بعد ذلك بدأتُ بالذهاب في عطلة نهاية الأسبوع، وفي النهاية كنت أذهب لحضور صلاة الفجر حوالي الساعة الخامسة صباحاً، في تلك المرحلة، بدأ القلق ينتاب والدي، فقال لي أنِّي إذا أردتُّ الصلاة فبإمكاني القيام بذلك في البيت، كما كان يسألني عن الأشخاص الذين كنت أقابلهم ونحو ذلك، بدأت أدرك أنّ عمل هذه الحلقات كان يهدف فقط إلى تجنيدنا، حيث لم يكن لديهم أي اهتمام حقيقي برعاية شؤوننا أو تعليمنا، كانت غايتهم تحقيق هدفهم بجعل عدد كافٍ من الشباب صغار السن يرتادون المسجد، وعند تحقيق ذلك الهدف كانوا ينتقلون إلى المجموعة التالية."

لقد وجد هاشم أنّ الطريقة التي تقوم على مبدأ الاتجاه من الأعلى إلى الأدنى في حلقات حافظ الأسد الدينية كانتِ تعكس النهج الذي اتبعه حزب البعث، حيث كان جُلُّ اهتمام الطريقتين ينصَبُّ على عدد الأشخاص الذين يمكن تجنيدهم، ويقول هاشم بأنّ العلاقة كانت من طرف واحد إلى حد كبير، أي أنه لم يكن هناك اهتمام حقيقي بمعرفة وجهة نظر الأشخاص الذين كان موقعهم في الأسفل، يضيف هاشم:

"بدأتُ أرى التفاعل بين الأشخاص الأكبر سناً، وكيف كانوا ينظرون إلى من هم أدنى منهم نظرة استعلاء، وكيف أنّ هذا الأمر برمّته لم يكن متناسقاً، فلم يبدُ صحيحاً بالنسبة إلي، وبقيتُ على هذا المنوال شهراً ونصف، وكنتُ أقوم بذلك بشكل يومي، كرّستُ الكثير من وقتي للصلاة وحفظ القرآن، حتى أنهم طلبوا مني تعليم الأطفال ذوي العشر سنوات، إلا أنني لم أشعر برغبة في القيام بذلك، لذلك توقفت عن الذهاب إلى هناك. بدأوا بعدها بإرسال الأصدقاء ليسألوني عن سبب توقفي عن الحضور، إلا أنّي واصلتُ الذهاب لأداء صلاة الجمعة، وكنتُ أقابل الأشخاص أنفسَهم، إلا أنني لاحظت تغيراً في العلاقة، حيث كانوا ينظرون إليّ كشخص غريب، بل وأسوأ من ذلك، ذلك أنّي كنتُ ضمن مجموعتهم ثم خنتهم."

أُتيحت أول فرصة لهاشم ليرى عالماً مختلفاً حين أمضى سنة من عمره يدرس في "لاتفيا" فيقول: "إن دول الاتحاد السوفييتي السابق شديدة الإلحاد، فالناس هناك يشربون الخمر ويأكلون لحم الخنزير ويمضون الليل في بيوت الغير،" مضيفاً أنه اختار عدم القيام بأيّ من هذه الأمور في البداية لأن الدّين يحرمها، ولأسباب تتعلق بالثقافة والعادات والتقاليد، يقول: "كنتُ أفكر دائماً بأنني سأخيب أمل أسرتي بي، إذ كيف سأفسر الأمر لهم؟ ولذلك لم أشرب الخمر، ولم أقم بشيءٍ من ذلك القبيل سنة كاملة."

إلا أنّ أول تجربة له في شرب الكحول كانت سنة 2004 في لبنان، حيث يقول: "اعتدتُ على زيارة أصدقائي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكلّما حاولوا إقناعي بالشرب كنت أقول لهم: لا، لا، لا أريد فعل ذلك. وذات مرة قلت لهم فجأة: حسناً. وفي أول ليلة شربت فيها لم أتوقف عن الكلام لست ساعات تقريباً، وأعتقد أنهم ندموا لتشجيعي على الشرب." إلا أنّ هاشم لم يندم على اتخاذ ذلك القرار حيث يقول: "شعرتُ بأني قد حرمتُ نفسي من الاستمتاع بوقتي قليلاً، وأنّه كان عليَّ أن أفعل ذلك منذ وقت طويل. إلا أني لم أغير في حياتي شيئاً، ولم ينقص احترامي لذاتي حين رحت أشرب الخمر."

راحّ هاشم يواعد الفتيات في مدريد في وقت لاحق، إلا أنه وعلى نحو يثير الدهشة كان لايزال يرفض أكل لحم الخنزير، حيث يقول:

"شعرتُ بأنَّ لحم الخنزير وحده كان خطاً أحمر بالنسبة إلي، لقد حاول أصدقائي أنْ يعرفوا من أيّ بلد أنا فيقولون لي: ليس لديك مشكلة بالشرب أو مواعدة الفتيات، فما المشكلة في تناول لحم الخنزير؟ أعتقد أن الخنزير ولحمه مرتبط بكل ما هو سيِّء أو بذيء أو بغيض في العالم العربي، لا يشبه الأمر مسألة الشرب، حيث يمكنك الاختيار بين أن تشرب أو أن لا تشرب، أما بالنسبة لتناول اللحوم فيمكنك أن تأكل لحم الخروف أو البقر أو الدجاج. لقد بدأتُ بتناول لحم الخنزير سنة 2008 على ما أذكر، وكان إدراكي عندها يشبه ذلك المتعلق بالشرب."

وباستمرار ابتعاده عن الدّين، أعلن هاشم إلحاده في نهاية الأمر لكن أسرته كانت لاتزال تجهلُ الأمر، فيقول: لا أعتقد أنني سأخبرهم، فلم أرد أن أسبب المشاكل لنفسي،" ويعتقدُ بأنّ المشكلة ليست متعلقة بالدين بحد ذاته، وإنما بسبب "وجود فرق على الصعيد الاجتماعي بين أن تكون مسلماً سلبياً وملحداً فاعلاً." ويتابع:

"أدخل أحياناً في نقاش مع والدتي. ذات مرة قلت لها: إذا كنت تؤمنين بوجود الله وبأنه يرعانا فبحق الجحيم، ما الذي يحدث في سورية والبلدان الأخرى إذاً؟ إنه نقاش عقيم، إلا أني كنت أطرح هذه الأسئلة البلاغية بين الحين والآخر، ولا أزال في نهاية المطاف مسلماً بالنسبة لها، وإنْ كان لدي تحفظاتي حول بعض المسائل المتعلقة بجوانب من الإسلام، إذ يمكنني البوح بأني لا أصلي ولا أصوم، ولكن إن أخبرتها بأني ملحد سيكون هناك انهيار كامل، إذ لايزالون في حالة إنكار، وأعتقد أن هذا الأمر ينطبق على المجتمع ككل وليس على أسرتي فحسب." 13

بالنسبة للأشخاص الذين كانوا مسلمين في السابق، فإنّ أحد أشكال العقاب الإلهي المثير للجدل بشكلٍ خاصّ هو المبدأ القائل بأنّ الملحدين والناس من أديان أخرى سيُعاقبون في الجحيم، وبالتالي فإن الأشخاص الذين لم تتسنى لهم الفرصة أبداً للتفكير باعتناق الإسلام وكذلك الذين فكروا باعتناق الإسلام بشكل جدي إلا أنهم لم يقتنعوا بالأدلة سيواجهون جميعهم اللعنة الأبدية، وذلك وبكل بساطة لأنهم لم يؤمنوا بالله. أضِفْ إلى ذلك أن كثيراً من الأشخاص "الملعونين" يعيشون حياة متحضرة وبريئة إلى حدّ كبير وذلك وفق أي معايير عادية. يقول أحمد سعيد في هذا الإطار: "توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن الدّين مسألة تتعلق بمكان ولادتك، وبالدين الذي يفرضه عليك والداك."

ومن الردود الشائعة حول هذا الأمر أن الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ليس لديهم بوصلة أخلاقية - أو أن لديهم البوصلة الأخلاقية الخطأ وذلك بالنسبة لمن يعتنقون ديانات أخرى - مما يؤدي بهم إلى الانجراف نحو الخطيئة، ويعتبر العالم السعودي البارز الشيخ محمد المنجد - الذي ادّعى بأن تسونامي المحيط الهندي الذي حدث سنة 2004 هو انتقام من الله نتيجة "الفجور" - أن الإلحادَ خطيئةً بحد ذاته، بل خطيئةً مشينةً، حتى أنه أسوأ من عبادة الأوثان أو الشرك بالله. كما يرى المنجد أنّ من يعبدون الأوثان والمشركين بالله هم أقلّ سوءاً من الملحدين لأنهم يعترفون بالله إلى حدّ ما، وإن كانت عبادتهم موجهة بشكل خاطئ، حيث يقول:

"إن الملحد الذي ينكر وجود الله، ويرفض رُسله، ولا يؤمن باليوم الآخر، فهو في قمة الكفر، ومعتقداته هي الأكثر سوءاً... إنّ الملحد عنيدٌ ومتغطرسٌ لدرجةٍ لا يمكن تخيلها، ولا تتقبّلها الفطرة الانسانية السليمة، لذا سينتهك كل ما هو مقدّس، وسيرتكب أيّ ذنْبٍ، وستكون رؤيته للعالم مشوهةً لدرجةٍ لا يمكن تصورها." 14

ويتابع المنجد حديثه فيستشهد بفتوى للمفتي السابق للملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز، والتي تقول بأنه يجب على المسلمين أنْ يحذروا أكْلَ لحم الحيوانات التي يذبحها الشيوعيون بشكلٍ خاصّ، فيقول: "إن اللحم الذي يذبحه الشيوعيون حرام وهو مثل اللحم الذي يتناوله المجوس وعبّاد الأوثان، بل إنْ اللحم الذي يتناولونه في الحقيقة أشدُّ حرمةً لأنهم أشدُ كفراً بسبب إلحادهم وإنكارهم للخالق."

وقد استشهدت صحيفة سعودية بكلمات عالمِ دينٍ آخر حين يقول: "إن التمسك بالقيم الدينية هو الحل الوحيد للانحطاط الأخلاقي المتزايد والفوضى الثقافية في المجتمع الحديث." 15

ورغم التأكيدات العديدة والمتكررة في هذا المجال، إلا أنّه لا يوجد دليل مقنع على أنّ سلوكَ الملحدين هو أسوأ أو أفضل من سلوك المؤمنين عموماً رغم ادّعاء كل من الفريقين تفوقه الأخلاقي على الفريق الآخر. لقد كانت الأفكار المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية، كالإنصاف والعدالة، ذات أهمية بالغة بالنسبة للعرب الذين أجريتُ مقابلات معهم ممن يشكّون بالدين، وهذا يتطابق، إلى حد بعيد، مع نتائج الدراسة التي أجراها "سميث" حول الملحدين الأمريكيين، حيث كان المشاركون في الدراسة "يعتبرون أنفسهم أفرداً طيبين وخلوقين،" إلا أنّم شككوا أن يكون مَردُّ هذا الأمر إلى إرثِ الأحكام والممارسات الدينية، حيث يقول "سميث" في الدراسة: "إن كل واحد منهم لاحظ وانتقد بطريقة ما فكرة أنّ الناس يحتاجون إلى الدّين ليكونوا صالحين وعلى درجة من الخُلُق." كما كان لدى الملحدين في الدراسة الأمريكية آراء تقليدية حول الخطأ والصواب، حيث اعتبر الكلُّ "تصرفاتٍ من قبيل الكذب والغش والسرقة والقتل وكل ما يؤذي الناس خصوصاً أمراً غير أخلاقي."

إنّ الفرق الأساسي هنا هو الطريقة التي يتبعها الملحدون في التعاطي مع الأسئلة المتعلقة بمبادئ الأخلاق، فبرفضهم الإيمان بالله يكونون قد وضعوا جانباً القواعد المحَددة مسبقاً، وقاموا بدلاً من ذلك بمحاكمات أخلاقية بناءً على تفكّرهم الخاص، ويجادل العديد بأنّ هذه الطريقة هي الأفضل، لأنّ الخيارات تعتمد على ما يرونه صائباً، لا على ما طُلِب منهم القيام به تحت التهديد بالعِقاب. ويعقّب أحد المشاركين في دراسة "سميث" قائلاً:

"لا يدرك كثير من المتدينين أنّك ببساطة تستطيع أنْ تختار التصرف الأخلاقي، وأنْ تحدد لنفسك الإطار الأخلاقي وفق أساس منطقي، فالأمر برأيهم متعلقٌ بما أمرك الله بفعله، وبأنك ستُعاقب إنْ لم تفعل ما أمرك الله به. وكما تعرف فهو سيناريو بسيط جداً قائم على مبدأ الترغيب والترهيب، فإن كنتَ تقوم بأمر ما خوفاً من العقوبة فإن ذلك يزيل تماماً ما أعتبره بُعداً أخلاقياً."

إنّ التقدم الذي تلخصه دراسة "سميث" حول الملحدين الأمريكيين تَتَوّجَ بمرحلة "إعلان الإلحاد،" حيث انتقلوا من المراحل الأولى للتشكيك في الله والدين إلى "مرحلةِ إنكارٍ أكثرَ فاعليةً ومقصودة بشكل أكبر،" ليبدأوا في النهاية بإعلان أنفسهم كملحدين صراحةً وأمام الآخرين.

يمكن أنْ يكون "الظهور" كملحد، في المجتمعات التي يهيمن عليها الدّين خطوةً صعبةً حتى في الولايات المتحدة، حيث يقول "سميث": "إنّ اعتبار الإلحاد أمراً معيباً ومنحرفاً يجعل المطالبة بالهوية والاعتراف في المجتمع أمراً صعباً في البداية." ورغم أنّ الدستور الأمريكي يفصل الدّين عن الدولة إلا أنّ الولايات المتحدة هي إحدى أكثر دول العالم تديُّناً، حيث تظهر عبارة "نؤمن بالله" على أوراقها النقدية، وغالباً ما يأثر الدين في السياسة، ولم يحدث أنْ ضمّ الكونغرس الأمريكي عضواً ملحداً إلا في سنة 2007، عندما أصبح "بيت ستارك "Pete Stark أولَ عضو في الكونغرس يعلنُ إلحاده صراحةً، وما يزال هنالك الكثيرون ممن يشككون فيما إذا كان بالإمكان يوماً ما انتخاب شخص رئيساً للدولة كان قد أعلن إلحاده صراحةً. ويصف 60% من الأمريكيين أنفسهم كمتدينين و5% فقط كملحدين، مما يساعد في تفسير سبب تردد بعض الملحدين في إشهار إلحادهم في الولايات المتحدة رغم أنّ حرية التعبير والحرية الدينية مبادئُ أساسيةٌ في الدستور الأمريكي. ويقول "سميث": " تبين في نهاية المطاف أنّ الإعلان عن الإلحاد أثبت إيجابية تجربةِ الذين قرروا القيام بتلك النقلة في حياتهم، "وأخيراً ورغم تكتمهم في البداية، ومع شروع الأشخاص الذين أجريتُ مقابلاتٍ معهم بإظهار إلحادهم علانيةً، صاحبَ الأمرَ ظهورُ الشعور بالتمكين والثقة ووجود معنى جديد للذات."

ومما لا شك فيه أنّ قلة قليلة من العرب يُقدم على القيام بهذا الأمر حالياً، فالأخطار التي ينطوي عليها إشهارهم للإلحاد كبيرةٌ جداً، بل يمكن أن تكون النتيجة كارثية بالنسبة لمن يقدمون على القيام بذلك، غير أن ظروف الأفراد متباينةٌ إلى حد كبير، وذلك بناءً على مواقف الأسرة والأصدقاء، والمجتمع المحيط بالشخص، فقد طلب معظم الأفراد الذين جرتْ معهم المقابلة بغرض تأليف هذا الكتاب عدمَ ذِكرِ أسمائهم الحقيقية وذلك، على الأغلب، لتجنب إغضاب أسرهم، حيث يقول محمد رمضان: "لقد فقدتُ بعضاً من أصدقائي بسبب آرائي، ولازلتُ أقاوم رغبتي الشديدة بإخبار والديّ، أتخيلُ بأن يُصاب والدي بنوبة قلبية أو شيء من هذا القبيل، أنا أهتم حقاً بوالديّ ولا أريد أن أؤذيهما، لن يفعلوا أي شيء لي إذا ما عرفوا ولكن سأمضي بقية حياتي وأنا أشعر بالندم؛ لأني بإخبارهم أكون قد آذيتهم كثيراً؛ لكنّي على الأقل أشعر بالسعادة لأنهم يعرفون أنّي لا أُصلِّي، وأحياناً ألجأ إلى اختلاق الأكاذيب البيضاء لإرضائهم."

وبما أنّ كثيراً من الأسر يقلقها مجرد التفكير بوجود شخص غير مؤمن بينهم، لا يسعى الأقارب عادةً لتأكيد مخاوفهم فيتبعون المنهج القائم على "لا نسأل، لا تخبروا" باعتباره مناسباً لكلا الطرفين. تقول "بدرا"، وهي "لاأدريّة" من لبنان"

"كانت سياستي تقوم على عدم السماح للآخرين بالتدخل في حياتي الخاصة. فقد تركتُ بيتي عندما بلغتُ الثامنة عشرة من عمري وذهبت إلى الجامعة في بيروت، فكان من الأسهل بالنسبة لي أنْ أبتعد، فتوقفتُ عن الصيام أثناء رمضان. هم يعرفون أنني أفكر بطريقة مختلفة لكنني لا أفصح عن معتقداتي كي لا أؤذيهم، كما يعرفون أنني أشك بوجود الله لكنهم يفضّلون تجاهل ذلك؛ كما ويتجنبون الاعتراف بذلك لأن الأمر شائك؛ حتى وإن أخبرتُ والدتي شيئاً محدداً بالفعل –كأن أخبرها بعدم رغبتي بأن أُدفن في مقبرة العائلة، وبأنني أريد أن تُحرق جثتي أو شيء من هذا القبيل– قد تتجاهل والدتي الأمر بكل بساطة أو تعتقد أنّ أمامي فرصة في أن أصبح مؤمناً مثلها."

تواسي الأسر القلقة نفسها بالأمل في أنْ يتوب قريبهم المتمرد في النهاية ويعود إلى رشده، حيث يقول أحد الملحدين العرب: "يعتقد العديد من أصدقائي وأفراد أسرتي أن إلحادي مجرد مرحلة سأتجاوزها يوما ما، ولكني الآن في الخمسين من العمر وقد مضى على إلحادي أربعٌ وعشرون سنة، فهي إذاً ليست مجرد مرحلة؛ لأنه حالما تعرف ذلك الأمر، لا يمكنك تجاهله." إلا أنه وبخلاف الكثيرين غيره، يجادل هذا الملحد أقرباءه السعوديين في الدّين؛ فيقول: "كثيراً ما ندخل في نقاشات ساخنة، إلا أنه ولسوء الحظ يفتقر الكثير من الأشخاص إلى الثقافة العلمية لفهم ما أتحدث عنه، فقد غُسِلَتْ أدمغتُهم وأُشْرِبوا أفكاراً معينة؛ وأصبح من غير الممكن معها العودةُ عما يؤمنون به." 16 ورغم عِلمِ أُسرته بموضوع إلحاده وقيامه بالنشر بشكل متكرر على موقع "تويتر"، إلا أنّ "الملحد العربي" يخشى أنْ يتعرض للتهديد إذا ما أصبح اسمه معروفاً، فقد أخبر أحدَ الصحفيين الإماراتيين: "هويتي سرية للغاية ولا أشاركها مع أيّ كان، كما أقوم بالعديد من التدابير الوقائية لحمايتها." 17

أمّا أحمد سعيد فقد أخبر والديه في اليمن أنه لا يعتقد بوجود إله، فما كان منهم إلا أنِ استهجنوا ذلك؛ فيقول: "أخبَروني بشكل أساسي ما يلي: "يمكنك أن تؤمن بالعلم وبنظرية التطور، ونظرية الانفجار الكبير، إلا أنّ جميع هذه النظريات العلمية هي من خلق الله." إن عائلتي محافظة ولكنها ليست كذلك بالمطلق، فيقولون لي أني كلما تعمقتُ في العلم كلما زاد يقيني بالله لاحقاً." غير أنّ أحمد هو أكثر حذراً في موضوع إلحاده أثناء نقاشاته مع أصدقائه المسلمين؛ حيث يقول:

"عادةً ما أقول لهؤلاء الأصدقاء أنني ربوبي، أي أؤمن بالله ولكن لا أؤمن بالإسلام. أحاول ألا أصدمهم بالقول إنني لا أؤمن بالله مطلقاً؛ لأنهم سيعتقدون أنّ كل ما أقوله سخيف وبأن الشيطان قد استحوذ على فكري، لذلك عادةً ما أقول لهم أنني أؤمن بالله وأعتقد بأن الله مذهل، أنا لستُ ملحداً لذلك لا تقلقوا... إلا أنني أعتقد بأن الإسلامَ وجميعَ أديان العالم قد أعطتِ الله اسماً سيئاً، وتلك هي وجهة النظر التي أجادل بها أصدقائي، لكنني لا أستطيع الإفصاح عن إلحادي لأنهم سيعتقدون بأنني سأذهب إلى الجحيم. لقد غُسِلَتْ أدمغتهم بالقدر الكافي. إنّ مجتمع الملحدين في اليمن صغيرٌ جداً لدرجة أنّ لي صديقاً يمنياً واحداً ملحداً فقط."

اكتشفت سارة في الكويت أنّ التعرف على غير المؤمنين، أو البدء بمحادثات عن الإلحاد يمكن أنْ يكون عملاً دقيقاً وصعباً، وغالباً ما كان ينتابها الفضول حول الأشخاص الذين بدا أنهم يتجنبون استخدام التعابير الدينية التقليدية في حديثهم اليومي من قَبيلِ "ما شاء الله،" إلا أنّ المظاهر يمكن أن تكون خادعة. تقول سارة:

"قابلتُ أناساً بدوا غير متدينين، ولكن عندما كان يتعلق الأمر بالدين كانوا يظهرون أنفسهم كمتدينين. كثيرٌ منهم كانوا يشربون الخمور، ويحضرون الحفلات، ويستمعون لجميع أنواع الموسيقا الجميلة التي كنت أسمعها. كنتُ أعتقد أنهم مثلي تماماً... إلى أن ظهر الدّين. كان لدي صديقة من أروع الفتيات، كانت مثيرة للإعجاب ومتأثرة بثقافة الغرب، وكنتُ أعتقد أنها من أفضل أصدقائي. إلا أنّها رأت ذات مرة حسابي على موقع "Reddit"، فوصفتني بالوثنية، وأخبرتني بأنني سأذهب إلى الجحيم؛ فكان الأمر بمثابة صدمة لي، وكان هناك أشخاص خشيتُ كثيراً أنْ أفتح معهم نقاشاً بهذا الموضوع، وكان من الغريب أننا لم نتحدث عن هذا الأمر أبداً. أما في الكويت فأعرف بضعة أشخاص فقط ممن أستطيع التحدثَ أمامهم في هذا الموضوع بصراحة، وعددهم بالتأكيد أقلُّ من عشرة أشخاص، كما كان هناك بعض الأشخاص الذين لم نذكر أمامهم كلمة ملحد أبداً، إلا أننا كنا نلمح لها تلميحاً فقط. كما كنا نلمح إلى بعضنا بعضاً بافتقارنا للإيمان، حيث يمكنك قول دعابة صغيرة مجدّفة قليلاً فقط –وليس كثيراً جداً - حتى وإن ضحكوا على الدعابة إلا أنك لا تزال غير متأكد، فتبدأ بالتساؤل عن الضحكة ونبرتها، فتتساءل: هل لديهم حِسُّ الدعابة؟ هل يعتقدون أنك تقول مجرد دعابة أم أنهم يعرفون أنك تحاول أنْ تقول شيئاً ما؟ ولكن وراء كل دعابةٍ حقيقةٌ، وذلك هو الجزء الصعب."

تشير نبيلة من البحرين إلى أنها أصبحت أقل تقيُّداً؛ حيث تقول:

"كان الأمر صعباً جداً في البداية، ولايزال كذلك مع العديد من الأشخاص، إلا أنني بدأتُ أدركُ مع تقدمي في السنّ أهميةَ أنْ ألتزمَ الصمت حيال هذا الموضوع؛ كما أُجري محادثات مع الكثير من المسلمين المنفتحين عقلياً في الحوار؛ وعندما التحقتُ بعملي كان هناك شخص لم يرغب بالإصغاء لهذا النوع من الحديث... ولكن أصبحنا حالياً نستطيع الحديث عن هذا الموضوع بشكل طبيعيّ، ونقول الدعابات عنه أيضاً، وهنالك أشخاص يؤمنون لأنهم يخشون كثيراً ألا يكونوا مؤمنين، أعتقد أنّ فكرة احتمال ألا يكون الأمر صحيحاً ترعبهم."

يقول "رامسات" الشاب المصري الذي كان مسيحياً سابقاً، أنه لا يتباهى بإلحاده؛ رغم كونه قد قام بتحديث القسم المتعلق بالدين في صفحة حسابه على "فيسبوك" حيث يمكن أنْ يكتشف أصدقاؤه الأمر عند معاينة صفحته. ويشير إلى أنه لا ينتقد الدّين لأنّ للدين يحقق غايةٌ روحية لدى الإنسان؛ فيقول:

"ليس الدّين أمراً سيئاً؛ بل هو أمر جيد؛ وإلا لما أَحدَثَه الناس، لا يهمني إنْ كنتُ أحتاج إلى الدّين أم لا؛ لأنني أعرف الآن أنه ليس صحيحاً، فأن أحب "بابا نويل" وأتمنى أن يأتي كل سنة إلى منزلي ويترك لي الهدايا، إلا أنني أعرف أنّ الأمر ليس حقيقياً. أتمنى لو أني لم أعرف ذلك، ولكن لا يمكن تغييره، كما لا يجب عليك أن تخبر الآخرين بأن "بابا نويل" غير موجود. لا تنتقد الدّين، بل دع الناس في سعادةٍ ما لم يؤثر فيهم الدّين بطريقة سيئة؛ كقتل بعضهم بعضاً، أما إن كانوا سعداء فدعهم كذلك، إذا كان الأمر مناسباً لهم فلا تحاول إصلاحه."

إلا أنّ ريم عبد الرازق، وهي مصرية أيضاً، ترى أنّ الصمت لا يجدي نفعاً فتقول:

"عندما يبدأ الناس أخيراً بالتكلم صراحةً، لن يتم فرضُ هذه القوانين بالقوة ضد الإلحاد والتجديف... إلخ، إذ لا يمكنهم فرضها على الجميع بالقوة؛ أما إذا كان الأمر يتعلق بشخص واحد يتحدث في أمر ما، عندها سيسجنونه، أعلمُ أنّ كثيراً من المصريين يؤمنون بما أؤمن به تماماً، إلّا أنهم لن يُظهروا ذلك أبداً، وبالتالي فإن الفكرة العامة تقول بوجود قلة من الملحدين فقط، وإذا ما تم سجنهم أو قتلهم فلن يبقَ أيّ منهم. إلا أن الواقع يقول أن هناك الكثير من أولئك الأشخاص، وأنهم إذا ما بدأوا بالكلام صراحة فإن الأمور ستتغير."

الفصل الخامس


الإشعار القانوني

تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com

ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا:

https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode