|
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
إنّ التخلي عن الدّين في البلدان العربية عادةً ما يكون له تبعات كثيرة، وفي حال كان هذا الدين هو الإسلام فإنه قرار عادةً ما يترافق مع تبعات سياسيّة عدا عن العواقب الاجتماعيّة والقانونيّة، وإن تخلي المسلم عن دينه يُعتبر مجازفة، فهو إما يصبح موضوعاً يتباهى به من يبغض الإسلام، أو يُتهم بأنّه عميلٌ في معركةٍ لم يشأ خوضها. فعندما يُعتقل شاب فلسطينيّ لمجرّد نشره أفكاره الإلحادية على الانترنت، تعتبره الشرطة تلقائيّاً بأنّه مأجورٌ من الصهاينة فتتحقق من حسابه المصرفي بحثاً عن الدليل الذي يثبت صحة ادعائها. وكذلك فقد سُئل ملحدٌ كان يظهر على التلفزيون المصريّ إن كان على اتصالٍ مع أيّ أحدٍ من خارج البلاد لكنه أنكر أن يكون كذلك أو أن يكون عميلاً للخارج.
إنّ اعتبار المسلمين السابقين عملاء لبعض القوى الأجنبيّة يلغي أيّة حاجةٍ إلى أخذ حججهم على محمل الجد، غير أنّ الشّك بوجود مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين ليست محض خيال ٍ رغم المبالغة فيها في غالب الأمر، فهناك الكثير من المنظمات البغيضة في الدول الغربيّة تسعى إلى إثارة التحيّز ضدّ المسلمين لدوافع عرقيّة وما إلى ذلك، وتَعتبر هذه المنظمات المسلمين السابقين مادة دسمة في محاولاتهم تلك.
يركّز المتطرّفون من اليمين السياسيّ في أوربا على الإسلام على وجه خاصّ في حملاتهم ضدّ الهجرة بحجة أنّ المسلمين باتوا على وشك الاستيلاء على أوربا، حيث تدعو حركة "أوقفوا أسلمة أوربا" التي تأسّست في الدنمارك إلى إيقاف الهجرة من الدول المسلمة بشكل نهائي وإلى إيقاف الهجرة من الدول الأخرى بشكل مؤقت، كما تدعو إلى "ترحيل الّلاجئين المسلمين الساخطين إلى أوطانهم وكذلك المهاجرين الآخرين وجميع المجرمين المهاجرين." 1 ويزعم "نيك غريفين Nick Griffin " الزعيم السابق للحزب القوميّ البريطانيّ أنّ بريطانيا وأيرلنديا باتتا تتحوّلان إلى "حيٍّ إسلاميٍّ فقيرٍ من دول العالم الثّالث"، 2 وتحدّث بنبرةٍ يغمرها الحنين إلى الماضي عن "المسيحيّة التقليديّة النّزيهة والشّريفة والمحترمة التي دافعت عن أوربا ضدّ الغزو الإسلاميّ، مسيحيّة الحملات الصليبيّة، مسيحيّة أجدادنا." 3
كما يساهم اليمين المتطرّف في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في نشر المخاوف من "الأسلمة"، رغم أنه يركز على الإرهاب أكثر من تركيزه على الهجرة. فعلى سبيل المثال يصرّ "روبرت سبنسر Robert Spencer" على فكرة أنّ الإرهاب هو جوهر الإسلام وذلك على موقعه على شبكة الانترنت "مراقبة الجهاد Jihad Watch" فيقول:
"في المجتمع الأمريكيّ المسلم لا يوجد هنالك فرقٌ بين المسلمين المسالمين والجهاديّين، وفي حين يميل الأمريكيون إلى تصوّر أن الغالبيّة العُظمى من المسلمين الأمريكيّين هم من الشخصيّات الوطنيّة ومن أصحاب الفكر المتمدن ممّن يتقبّلون وبكل رحابة صدر ضوابط التعدّديّة الأمريكيّة، إلا أنّ هذا الافتراض لم يتم إثباته على أرض الواقع." 4
وعلى الطّرف المقابل نجدُ الفكر اليساريّ الذي يدعم الحركات الإسلاميّة تحت ستار محاربة الإمبرياليّة، ويحمل أصحاب هذا الفكر وجهة نظر استشراقية حيث يعتبر هؤلاء أن الإسلاميّين والمتديّنين المحافظين هم ذوو ثقافة أصيلة، في حين ينبذون أصحاب النظرة التقدّميّة بوصفهم مستغربين ينشرون الفكر الغربيّ وعملاء للإمبرياليّة. وبالتّالي فالانتهاكات التي تُرتكب على أساسٍ دينيٍّ والتي سيرفضها اليساريون لو وَقعتْ في الدول الغربية ستُعتبر مقبولة في السياق العربي، فمثلاً تصف مريم نمازي وهي عضو مجلس المسلمين السابقين في بريطانيا ما سبق على أنّه سياسات الخيانة، وتقول: "إنّها لخيانةٌ ليس للمعارضين وضحايا الإسلام المتشدد فحسب، وإنّما خيانة للمبادئ التي لطالما دافع عنها اليسار كالعدالة الاجتماعية والمساواة والعلمانية والشمولية.... الخ. 5
ولا ترى "نامازي" أن هناك فرق كبير بين الإسلاميين في الشرق الأوسط واليمين المتطرف في الدول الغربية رغم أن هذا الأخير "يتهجّم على النّاس وعلى المساجد لا لشيءٍ سوى لخلفيّاتهم ويلقي باللّوم الجماعي على جميع السّكان." وترى أنه كلاهما ينحدران من خلفيّة واحدة، وتقول:
"لكن هناك اختلافات واضحة بين الإسلاميين في الشرق الأوسط واليمين المتطرف في الدول الغربية نتيجة وجود الاختلاف في السّلطة، إلّا أنّ فلسفتهما وسياستهما وسياسة الكراهيّة التي ينتهجونها مشابهةٌ تماماً لبعضها البعض، لذا فإنّنا نقاتل على كلا الجبهتين خصوصاً في الغرب.
فليس بمقدورك محاربة طرفٍ دون الآخر، وخاصّةً أنّ اليمين المتطرّف يقدّم المسلمين والمهاجرين كبش فداء، فهم يهاجمون قضايا الشّريعة وقوانين الرّدّة بمعنى أنّهم يتظاهرون بدعم المرتدّين والمرأة في الدول المسلمة بينما هم في الحقيقة لا يأبهوا البتّة بالنّساء والشعوب في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما أن اليمين المتطرف يسعى جاهداً لترحيل الجميع ولا يبدون أيّ اهتمامٍ في حصول هؤلاء على حقوقهم في اللّجوء والحماية." 6
ومثله مثل نظيره البريطاني، يرى مجلس المسلمين السابقين في شمال أمريكا نفسه أنّه محصور بين نقيضين: الإسلام السياسيّ والمدافعين عنه من جهة، واليمين المتطرّف من الجهة الأخرى، ويرى أنّه يقاوم كلاً منهما، وقد جاء في بيانٍ له على صفحته الرّسميّة على الانترنت بعنوان "لا للتّعصّب ولا للدفاع":
"هناك من يروّج لأفكارٍ عنصريّةٍ ومتعصّبة ضدّ المسلمين وضدّ أيّ إنسان من خلفيّةٍ مسلمةٍ وحتّى ضدّ النّاس ممن لا يمتّون للإسلام بِصلة (كديانة السيخ). تميل هذه الأصناف من النّاس المتعصّبين إلى التعامل مع كلّ المسلمين ككيانٍ واحد خالٍ من الشقاق والاختلافات الداخليّة.
في الطرف المقابل هناك من يردّ على المتعصّبين والمُبغضين للأجانب من خلال تبرير مظاهر العنف في الإسلام والتّصرّفات الفظّة من بعض المسلمين. أما النوع الثّاني، أي المدافعين عن الإسلام، فغالباً ما يتصدون لكل أنواع النقد الموجّه ضد الإسلام والمسلمين رغم أنهم يوجهون هذا النقد ذاته إلى الأديان والإيديولوجيات الأخرى كالمسيحيّة والرأسماليّة والشيوعيّة وغيرها.
وكوننا أناساً تربّينا كمسلمين أو اعتنقنا الإسلام بملء إرادتنا ومن ثمّ تخلينا عنه لأنّنا لم نعد نستطيع الإيمان به أكثر من ذلك، فإننا نجد أنفسنا بين هذين النقيضين؛ المتعصّبين والمدافعين ونرفض إرضاء أي منهما. ونحن لا نسعى إلى تعزيز الكراهيّة ضد كل المسلمين فقد كنّا مسلمين وعدد كبير من أفراد عوائلنا وأصدقائنا هم مسلمون، كما نعي أنّ هناك تنوعاً واختلافاً بين المسلمين ونحن لن ولا نشارك في محوِ هذا التّنوّعِ الموجود بين المسلمين في جميع أنحاء العالم.
لقد دَرّس مُعظمنا وما زال كثيراً من الأديان، ونحن كمجموعة على درايةٍ كبيرة بالفظائع التي ارتكبتها الأديان الأخرى على مرّ التاريخ، ونحتفظ بحقّنا في التّركيز على الإسلام كونه أكثر دينٍ جرّبناه، فهو الدّين الذي ترعرعت غالبيّتنا عليه، وهو الدين الذي حاولنا الإيمان به من صميم قلوبنا.
ففي الوقت الذي نشجب فيه التّعصّب الذي يصدر عن أولئك الذين ينشرون أفكارهم العنصريّة والمُبغضةِ للأجانب تحت رداء انتقاد المسلمين، فإنّنا نشجب أيضاً النسبوية الثقافيّة والأخلاقيّة الموجودة لدى أولئك الذين يُروّجون لفكرة أنّ جميع النّاس ذوي الخلفيّات المسلمة متشابهون وأنّهم يريدون اعتناق الإسلام، وأنّ الإسلام أقلُّ قابليّةٍ بطريقةٍ أو بأخرى للتّمحيص من غيره من المعتقدات." 7
إن أحد التّحديات التي تواجه المسلمين السّابقين هي كيفية تجنب أن يصبحوا وقوداً للتحيّز والتحامل في الغرب.
إن مصطلح "الإسلاموفوبيا" المثير للجدل موجود منذ أكثر من قرن من الزمن، حيث سُجّل أوّل استخدامٍ له في فرنسا سنة 1919 (islamophobia) في إشارةٍ إلى موقف مدراء المستعمرات الفرنسيّة، كما سُجّل أوّل استخدام لهذا المصطلح في بريطانيا على يد "إدوارد سعيد" سنة 1985 والذي ربط هذا المصطلح بمعاداة الساميّة قائلاً: " تزامنَ ظهور معاداة الإسلام في المجتمع المسيحيّ الغربيّ المعاصر مع معاداة الساميّة ونبتَ من المصدر ذاته وتغذى من الجدول عينه." 8 حاز هذا المصطلح على قبولٍ واسع عقب تقريرٍ لـِ "رونيميد ترست Runnymede Trust" صّدّر سنة 1997 بعنوان: "الإسلاموفوبيا: التحدّي الذي يواجهنا جميعاً" والذي سلّط الضوء على موقف البريطانيين تجاه المسلمين المقيمين في بريطانيا، 9 وبعد عدّة سنوات بدأ مصطلح "الإسلاموفوبيا" يُستخدم من قِبل مختلف الهيئات العالميّة بما في ذلك الأمم المتّحدة، ومن المهم التنويه إلى هذه الخلفيّة التّاريخيّة وذلك نتيجةً لتلك الادعاءات الباطلة - والمتكرّرة - في الولايات المتّحدة الأمريكيّة والتي تقول إنّ هذا المصطلح قد أوجدهُ الإسلاميّون لغايةٍ محدّدةٍ وهي تصوير أنفسهم على أنّهم ضحايا، فعلى سبيل المثال تقول إحدى المقالات المُضلّلة على موقع يميني متطرّف على الانترنت:
"لم يأتِ مصطلح "الإسلاموفوبيا" الجديد من العدم بل اخترعته المؤسّسة الدّوليّة للفكر الإسلامي وهي منظّمة تابعة للإخوان المسلمين ومركزها في شمال فرجينيا." 10
لكن الفكرة القائلة بأنّ الإسلاموفوبيا غير موجودة وأنّه تمّ اختلاق هذا المصطلح لقمع أي انتقاد حرّ للإسلام ما تزال قائمة، وقد تفاقمت هذه المشكلة بسبب عدم وجود تعريفٍ للإسلاموفوبيا يتفق عليه الجميع، كما يعتبر كثيرون أن هذا المصطلح مثير للجدل، وقد اقترح البروفيسور الرّاحل "فريد هالّيدي Fred Halliday" أنّ مصطلح Anti-Muslimism سيكون أكثر دِقّةً لأنّه عادةً ما يشير إلى العداء للمسلمين لا للإسلام ومبادئه، وقد اعترف "روبين ريتشاردسون Robin Richardson" وهو مُحرّر تقرير رونيميد الذي صدر سنة 1997 بالانتقادات الموجهة إلى التقرير وقدّم فيما بعد تعريفاً أكثر تعقيداً "للإسلاموفوبيا" قائلاً:
"هو مصطلحٌ مختزلٌ يشير إلى المزيج المتعدّد الأوجه للسلوك والخطاب والتّراكيب والتي تُعبّر عن مشاعر الخوف والقلق والرّفض والعداء للمسلمين وخصوصاً في الدّول التي يعيش فيها الناس من أصولٍ إسلاميّةٍ كأقليّاتٍ." 11
وتجدر الإشارة إلى أنّ تقرير "رونيميد" كان معنيّاً بوضع المسلمين في بريطانيا على وجه التحديد وكان يحتوي على تعليماتٍ "لمواجهة الافتراضات الإسلاموفوبيّة التي تقول بأنّ المسلمين هم كيان واحد خالٍ من التطوّرٍ الداخليٍّ أو التنوّعٍ أو الحوار، وأيضاً للتنويه إلى المخاطر الأساسيّة التي تخلقها أو تفاقمها الإسلاموفوبيا على المجتمعات المسلمة وبالتالي على سعادة المجتمع ككلّ."
وبصرف النّظر عن الجدل الذي أُثير حول مصطلح الإسلاموفوبيا، فإن التحامل والتحيز من النوع الذي أورده تقرير "رونيميد" موجود فعلاً وليس من الصعب تمييزه، وعادةً ما يشتمل هذا التحامل على تعميماتٍ خاطئة ومُضلّلةٍ عن الإسلام و/أو المسلمين - بالإضافة إلى أناسٍ آخرين يُفترض أنهم مسلمون - وذلك لتصويرهم بطريقة سلبية، إلا أن كثيراً متفقون بأن مصطلح الإسلاموفوبيا يصعب تطبيقه بشكلٍ عقلاني على الانتقادات الحقيقيّة والصادقة للإسلام كدين، فلا يجب أن يصبح التصدي للإسلاموفوبيا تفويضاً لكبت النقد الحر والنزيه، وهو ما يوضحه المنتدى البريطانيّ ضدّ العنصريّة والإسلاموفوبيا:
"إن مخالفة أو رفض معتقدات المسلمين وممارساتهم لا يُعتبر إسلاموفوبيا، ففي الحقيقة تُعتبر الخلافات والمناقشات جزءاً مهمّاً من الإسلام المعاصر في المجتمعات المسلمة في كلٍّ من بريطانيا والعالم وهي ضرورية ليظل الإسلام ملائماً، وبالتالي فإن الاختلاف في الرأي والنّقد المشروعَين من قبل غير المسلمين ليس متوقّعا فحسب بل ويجب تقديره أيضاً، غير أن ذلك يجب أن يتم بعقلانيّةٍ وضمن المعقول." 12
ولسوء الحظّ يُفسّر هذا الكلام أحياناً على أنّه بمثابة تفويضٍ لشتّى أشكال الإساءات، ففي كلمة ألقاها عن الإسلام قال "نيك غيفرين Nick Griffin" النائب عن الحزب القومي البريطانيّ اليمينيّ المتطرّف: "لقد توسّع هذا الدين الخبيث من حفنة من المجانين الغريبي الأطوار منذ حوالي 1300 سنة إلى أن راحَ الآن يكتسح البلد تلو الآخر في جميع أنحاء العالم، فإن تقرأ القرآن ستجد أنّ هذا ما يريدونه بالضبط". 13 حُوكم بعدها "غيفرين" بعد أن وُجهت له عدة اتّهاماتٍ باستخدامه كلماتٍ أو انتهاجه سلوكاً يُقصد منه إثارة الكراهية العنصريّة إلا أنّه نفى في المحكمة أن تكون كلماته عنصريّةً وقال في المحكمة: "إنّ هناك فرقاً شاسعاً بين انتقاد دينٍ ما وبين القول صراحةً أنّ هذا تهجُّمٌ على أتباعه، فعندما أنتقدُ الإسلام فإنّني أنتقد هذا الدّين والثّقافة التي يؤسّسها لا المسلمين كمجموعةٍ بالتأكيد ..." وبعد إعادة محاكمته تمّ تبرئته من جميع التُّهم المنسوبة إليه في نهاية الأمر. 14
هناك اختلافات بين الدّين و العِرق بلا شك، فالعِرق على سبيل المثال موروثٌ ولا يمكن تغييره على عكس الدين، وهذا من الناحية النّظريّة على الأقل، لكن من الضروريّ إدراك أنّ الدّين قد يكون أكثر بكثيرٍ من كونه مجرّد نظامٍ عقائديّ فهو في الغالب يشكّل هويّةً وانتماءً ثقافيّاً - وأحياناً سياسيّاً، فهناك نكتةٌ قديمةٌ عن الاضطرابات الطائفيّة في أيرلنديا الشّماليّة حيث أخرجَ شخصٌ رجلاً من سيّارته مطالباً إيّاه بالإفصاح فيما إذا كان مسيحيّاً كاثوليكيّاً أو أرثوذكسياً، فأجاب الرّجل - في محاولةٍ لتجنّب المشاكل - بأنّه يهوديٌّ ملحدٌ، فسأله الرجل المُعتدي وهو غير راضٍ بالجواب فيما إذا كان ملحداً يهوديّاً بروتستانتيّاً أم ملحداً يهوديّاً كاثوليكياً. كان هذا أحد الأسباب التي دفعت باللجنة الأوروبيّة المناوئة للتعصّب والعنصريّة إلى تعريف العنصريّة بأنّها "الاعتقاد بأن أموراً كالعِرق واللون واللغة والدين والجنسيّة والقوميّة أو الأصولٍ القومية أو العرقيّةٍ تبرر ازدراء شخصٍ أو مجموعة من الأشخاص، أو بأنها الاعتقاد بتفوّق شخصٍ أو مجموعة."
غالباً ما تتحوّل الإشارة إلى "العلامات" الثقافيّة كالدّين واللغة والملبس إلى بديلٍ لأشكالٍ أكثر صراحةً من العنصريّة، "فالعنصريّة لا تعني بأيّ شكلٍ من الأشكال النّقاش المباشر حول مواضيع على أسس عنصريّةٍ واضحة." تقول هبة كريشت وهي ملحدة عربيّة خلال حوارٍ مع أعضاء آخرين من مجلس المسلمين السابقين في شمال أمريكا:
"إنّ معظم المواقف العنصريّة هي في ظاهرها ليست موجّهةً إلى شعوبٍ معينة، فقد كثرت المواقف العنصريّة حول الأمّهات العازبات وموسيقى الرّاب والطوابع التي تحمل صوراً للطّعام والسُتر ذوات القبعة وتمائم (شعارات) كرة القدم، وهذه ليست شعوباً أو أعراقاً بحدّ ذاتها، فالنقاشات العنصريّة التي دارت حولها يمكن اختصارها بمعتقدات مُعمّمة فيما يتعلق بعادات ومجتمعات أولئك الذين تصدر عنهم هذه المواقف العنصرية.
فالتّعصّب ضدّ المسلمين هو في صُلبه تعصب ضد العرق، وحتى أنّ مناقشة مسألة البِيض الذين يعتنقون الإسلام تشتمل على أمور كالسّرقة والإغراء الذي تعرض له هؤلاء البيض من قِبل الناس ذوي البشرة الحنطية، ونحن لا نسدي معروفاً لأحد عندما نختبئ خلف مقولة أنّ "الإسلام ليس عِرقاً ..." 15
كما تقول هبة كريشت إنّ المسلمين السابقين في الغرب يواجهون التّحيّز والتحامل ذاته الذي واجهوه عندما كانوا مسلمين، وتقول: "إنّ العنصريّة التي تسمح للآخرين بالافتراض أنّنا نتبنّى مشاعر المسلمين أو معتقداتهم بسبب انتماءاتنا العرقيّة رّغم ما يصدر منا أفعال وأقوال إنّما هي العنصريّة ذاتها التي يعاني منها المسلمون."
كان أعضاء مجلس المسلمين السابقين في شمال أمريكا يتناقشون حول أيّ مصطلحٍ يستخدمون للتمييز بين "التمييز المفرط ضدّ الإسلام والنّقد المعقول للإسلام." والسّبب في ذلك برأي كريشت هو أنّ مصطلح الإسلاموفوبيا أصبح مصطلحاً جامعاً يُستخدم لإسكات النّقد المشروع لأيديولوجية ما ولإدانة التعصّب ضدّ المسلمين، ويجب التفريق بين هذين المفهومين بل يجب ابتكار مصطلحين جديدين لكل مفهوم." لم يؤدي النّقاش إلى التّوصّل إلى حلّ إلا أنّه يشكّل وبوضوحٍ مشكلةً معقّدةً بالنسبة للمسلمين السابقين.
وتقول المصريّة ريم عبد الرازق: "أعتقد بأن نقد أيّة أيديولوجيّة هو أمر مقبول، أمّا التّمييز ضدّ الناس على أساس معتقداتهم فهذا ما يجب رفضه، ولا بأس أن تنتقد فكرةً ما، أمّا أن نتحيّز ضدّ شخصٍ ما لأنّه مؤمنٌ بدّين معيّن فهذه هي الإسلاموفوبيا." كما ترى أنها ما كانت لتسخر من الناس بسبب نمط لباسهم الدينيّ، وتقول: "لديّ أصدقاءٌ يقومون بأمورٍ لغرض السّخرية فحسب، أمّا أنا فأشعر أنّه أن تُصبح متهكماً لهذه الغاية فحسب لن يحقّق أيّ إنجازٍ على أرض الواقع."
قد يكون عدم الحكم على الأمور وفقاً لمظهرها الخارجيّ مبدأ عامّاً جيّداً، فقد تمّ استجواب أُناسٍ اتُهموا بالإرهاب لمجرّد أنّهم "كانوا يَبدون" كمسلمين أو عرب –ولكن هل من الخطأ القيام بهذا دائماً؟ ضمن النطاق العام "لمظهر المسلمين فإنّ أنماطاً محدّدةً من اللباس تشير إلى طريقة تفكيرٍ محدّدةٍ، وهذا ما يقصده من يتبنى ويرتدي هذه الأنماط، حيث تستشهد "كيران أوبال Kiran Opal" وهي أحد مؤسسي مجلس المسلمين السّابقين في شمال أمريكا بمثالٍ عن رجلٍ مسلمٍ يرتدي ثوباً طويلاً و له لحيةٌ يقارب طولها 15 سم كان يمشي برفقة امرأتين مُنقّبتين وستّة أطفالٍ خلفهم، وتقول أنها حين ترى منظراً كهذا تقول في نفسها: "أستطيع أن أحكم على هؤلاء النّاس وأعتقد أنّهم يقمعون المرأة ويؤمنون بتفوقهم كمجموعة ويسيؤون إلى الأشخاص المثليّين والسحاقيات والمتحولين جنسياً وثنائيي الجنس والأقليّات الدينيّة ... فهل يعني ذلك بأنّي مبغضة للإسلام (إسلاموفوبيّة)؟" 16
وبينما يصارع المسلمون السابقون للنأي بأنفسهم عن التعصّب ضدّ المسلمين، يدلي عدد من الملحدين الغربيّين البارزين بتعليقات وتصريحات تزيد الأمر تعقيداً، فعلى سبيل المثال نَشر ريتشارد دوكينز تغريدةً مثيرة للجدل يقول فيها:
"إن جوائز نوبل التي حصل عليها جميع مسلمي العالم أقل من تلك التي حصلت عليها كلية ترينيتي في كامبريدج وحدها رغم أنهم حققوا إنجازات عظيمة في العصور الوسطى." 17
من الصّعب أن تجد مبرّراً لهذا المنشور سوى أنه يهدف إلى الاستخفاف بالمسلمين عامةً رغم كون المعلومات الوردة فيه دقيقة في الواقع، وتشكّل ندرة إنجازات المسلمين العلمية في العصر الحديث موضوعاً مهمّاً وقابلاً للنّقاش وتفسيراته مُعقّدة، 18 إلا أنّ إثارة هذا الموضوع على موقع تويتر الذي يحدد التغريدة بمئة وأربعين حرفاً فقط بالكاد يشكّل دعوةً إلى نقاش مُسهب، بل إنه يغذي الخطاب المعادي للمسلمين. كما قام دوكينز بإعادة نشر رابط مقالٍ على تويتر يؤكّد مقولة أنّ مصطلح الإسلاموفوبيا إنّما هو من اختراع الإخوان المسلمين رغم أنّه ما لبث أن حذف التغريدة بعد وقتٍ قصير كونه أدرك خطأه. 19
أمّا على صفحته الخاصّة على الانترنت حيث المجال مفتوحٌ أمامه للحديث بإسهابٍ دونما قيود على عدد الكلمات فقد راح دوكينز يوجه انتقادات لاذعة للإسلام دون إسهاب أو خوضٍ في التفاصيل من قبيل "تنامي تهديد الإسلام"، 20 كما اقترح أنّ كلمة "التّعدّديّة الثقافيّة" في أوروبا إنّما ترمز إلى الإسلام. 21 وقال: "إنّ الإسلام بات يشكّل أعظم قوةٍ شر من صنع الإنسان في عالمنا اليوم،" 22 و" إن رأيتَ مسلماً يضرب زوجته فلا جدوى من الاتصال بالشرطة لأنّ العديد من رجال الشرطة في بريطانيا يخشون أن يُتَهموا بالعنصريّة أو الإسلاموفوبيا. 23
يُعتبر "دوكينز" و "سام هاريس Sam Harris" والرّاحل "كريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens" من "الملحدين الجدد" المعروفين بمنهجهم الشعبوي اللاذع والعدوانيّ أحياناً، فقد كتبت "ناثان لين Nathan Lean" في مقالٍ نقديٍّ في مجلّة Salon:
"لم يكن حضور "دوكينز" و "هاريس" ورفاقهم على السّاحة العامّة ملحوظاً كثيراً رغم أنهم موجودون منذ سنين حيث لم يشكل الإلحاد حينها أمراً عظيماً ولم يكن بمثابة مهنةً بحدَّ ذاته إلى أن قرّر محمّد عطا ورفاقه من الشّرق الأوسط خطف الطائرات ونسف برجي التجارة العالميّين في سبتمبر/أيلول من سنة 2001 وعندئذٍ تغيّر كلّ شيء....
لم يبرز الإسلام بشكلٍ علنيٍّ في هجمات "الملحدين الجدد" حتّى تاريخ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. وعادةً ما كان الإلحاد العدوّ الأبرز للمسيحيّة كونه ظّاهرة نشأت في أوربا رغم اعتبار البعض اليهود واليهوديّة أعداءً للمسيحية أيضاً، إلا أنّ الملحدين الجدد انخرطوا في جوقة "المُبغضين الجدد" المتعاظمة بدافعٍ من حماسهم الجديد في أعقاب الهجمات الإرهابيّة، فراحوا يخلطون بين اشمئزازهم من الدّين بشكلٍ عام وكرههم للإسلام على وجه الخصوص...
تحولّت النّقاشات حول الاستحالة العمليّة لوجود الله وحول اللاعقلانيّة العلمية لوجود الحياة الآخرة إلى رُهاب من هجرة المسلمين أو إلى موضوع الحجاب، فقد أصبح "الملحدون الجدد" هم الإسلاموفوبيّين الجدد وأصبحت إهاناتهم للمسلمين تشبه اللغة الغوغائية للعنصريّين الجهلة أكثر من كونها تقييماً مُستنداً إلى العقل والمنطق والعقلانيّة." 24
يرى الكاتب والفيلسوف الأسترالي "راسل بلاكفورد Russell Blackford" أنّ المشكلة في هذا النّهج لا تكمن في مجرّد أنّه يساوي بين نقد الإسلام وأفكار اليمين المتطرّف فحسب، بل إنّه يساعد اليمين المتطرّف في كسب مزيد من الاحترام، وقد ذهب "سام هاريس" وهو أحد الملحدين الأمريكيّين البارزين إلى أبعد من ذلك حيث قال إنّ النّاس الذين يتحدّثون بعقلانيّةٍ عن التّهديد الذي يشكّله الإسلام على أوروبا هم في الحقيقة فاشيّون." 25
يرى "بلاكفورد" أن اليمين المتطرّف سيستفيد من توفّر الانتقادات العقلانية سياسيّاً للفكر الإسلاميّ والأنشطة الثّقافيّة المرافقة له، ويشمل ذلك تبني ما كان يُعرف بالقضايا الليبراليّة كمعارضة الزّواج القسريّ وجرائم "الشّرف" وختان النّساء وفرض الضّوابط على لباس المرأة.
ويضيف بلاكفورد:" إنّ هنالك أسباباً دفعت بالمنظّمات اليمينيّة المتطرفة إلى استحضار الحجج المُرتكزة على العلمانيّة ومناصرة حقوق المرأة، وهي حججٌ مفيدةً كونها تُحاكي العقل والعاطفة باستقلاليّةٍ بعيداً عن استرضاء الانتهازيّين في اليمين المتطرّف، وبصرف النّظر عن الجهة التي تستخدم هذه الحجج، إلا أنّها تنطبق وبشكلٍ معقول على عناصر مُعيّنةٍ في الإسلام، أو على الأقلّ على المواقف والممارسات المرتبطة به."
وعلى المستوى العمليّ يرى "بلاكفورد" بأنّه "يجب نُصح المعارضين للإسلام ممّن لا يريدون الظّهور بمظهر المتعاطفين مع اليمين المتطرّف أو المغفلين بأن ينتبهوا للانطباع الذي ينقلونه، وعليهم توضيح مواقفهم بأوضح صورةٍ ممكنة إن أمكن وأن ينؤوا بأنفسهم عن الشخصيّات اليمينيّة المتطرّفة التي تأتي بالحجج ذاتها،" ويضيف قائلاً :"إنّ عبارة "إن أمكن" مهمّةٌ جدّاً لأنّ ما هو عمليّ في مقالٍ فلسفيٍّ مثلاً قد لا يكون عمليّاً في حالة الرّسم الكاريكاتوريّ السّاخر أو حتّى في كتابٍ جدليٍّ موجّهٍ إلى جمهورٍ من العامة، ويجب ألّا نستبعد مواهب الأشخاص الذين لا يتوافق مزاجهم أو تدريبهم مع التّواصل المحدود والدفاعي، كما ولا يجب أن يكون تواصلنا دائماً بطرقٍ مملّةٍ و رتيبةٍ في نظر الكثيرين، ولا ينبغي علينا المشي على قشر البَيض للحصول على شيءٍ ما." 26
وبصرف النّظر عن ردّة الفعل، يجادل بعض المسلمين السابقين بأنّ "الملحدين الجدد" يقولون أشياء يجب قولها–أشياء قد لا يجرؤ حتى المسلمون السابقون على قولها.
تقول سارة حيدر عضو مجلس المسلمين السّابقين في شمال أمريكا: "بإمكانك تقديم الكثير من الحجج التي تثبت بأنّ النّهج الذي ينتهجونه ليس الأكثر عقلانيّةً، وربّما ليس الأنسب بشتّى الطّرق، إلّا أنّه لا يبدو متعصّباً من وجهة النّظر التي انطلقنا منها، كما وأنّه لا يبدو عنصريّاً بأيّ شكلٍ من الأشكال." ومن بين المسلمين السابقين تأتي الانتقادات للإسلام من الليبراليين الذين يعيشون في الغرب "وممّن لديهم حساسيّة مفرطة تجاه التعصّب أو تجاه أيّ شيءٍ يمكن أن يمتَّ للتّعصّب بِصلة." كما ترى سارة حيدر أن" أولئك الذين لا يعيشون في الغرب أو المهاجرين الجدد سيفرحون بالأشياء التي يقولها "دوكينز" و "هاريس." وتضيف قائلة:
"ليس لدى الكثير من المسلمين السّابقين أدنى مشكلة مع ما يُدعى "الملحدين الجدد"، بل إنّهم يرون أنّ هذا النّهج في المواجهة ضروريّ جداً، إذ تُعتبر هذه نقطة خلافٍ في المجتمع، فهناك من يدافع عن رأيه في كلا الجانبين. وأودّ الإشارة إلى أنّ قلّة قلّيلة يعتقدون أّنّ "سام هاريس" و "ريتشارد دوكينز" في الحقيقة متعصّبون، والخلاف في غالب الأمر هو حول فعاليّة التكتيكات التي يتبعونها."
عندما يكون شخصٌ ما مُتعمّقاً جدّاً في الدّين فإنّ تصريحاً صادماً واحداً كفيلٌ بجعله يعيد تقييم معتقداته، فعندما كنتُ مسلمة لطالما قيل لي إنّ الإسلام هو الدّين الأكثر تقدّماً فيما يتعلّق بحقوق المرأة، وهو شيءٌ أؤمن به ولم أتكلف عناء التّحقّق منه - فلماذا سيكذب شيخي عليَّ؟ وكان لقائي بملحدٍ وقحٍ هو ما دفعني في الواقع إلى مراجعة معتقداتي واتّضح في النّهاية أنّه يعرف نصوص دينية من ديني أكثر منّي، وسألتُ نفسي: هل أساء هذا الرجل لي؟ نعم! هل آذى "مشاعري الدينيّة"؟ نعم، إلا أنّني ما كنت لأترك النقاش لولا عدوانيته." 27
تتضمّن حرّيّة التعبير كما نصّت المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان الحقّ في "الإهانة والتسبب بصدمة والإزعاج" لكن ذلك لا يعني أنّ الناس لديهم الحرية في قول أشياء هجوميّة لأتفه الأسباب، بل إنّ هناك مناسباتٍ معيّنةٍ يحقُّ لهم فيها القيام بذلك، إذ إنّه من الممكن قمع النّقاش المشروع بسهولةٍ لولا وجود هذا الحقّ في الإهانة لأن البعض سيدعي أنه تعرض للإساءة، وهناك الكثير من الأمثلة التي تمّ التطرق إليها في فصولٍ سابقةٍ من هذا الكتاب.
ولكن الناس ذوي الأفكار والمعتقدات المختلفة بحاجة إلى التّعايش في جوٍّ من التّعدّدية والتّسامح وعدم التّمييز واحترام حقوق بعضهم البعض، ورغم صعوبة التّوفيق بين هذه المطالب المُتضاربة بشكلٍ كاملٍ، إلا أنّ الهدف في الحقيقة هو في إحداث توازنٍ عادلٍ قدر الإمكان فيما بينها.
وقد قدّمت دراسةٌ أجرتها مفوضية البندقيّة " Venice Commission" سنة 2008 برعاية المجلس الأوروبي بعض الاقتراحات عن المواضع التي يجب أن يحصل فيها هذا التّوازن. 28 تقول المفوضية: "يجب أن يكون انتقاد الأفكار الدينيّة ممكناً، حتى وإن فهمَه البعض على أنّه إيذاءٌ لمشاعرهم الدينيّة. إن إهانة مبدأ أو عقيدة أو ممثّلِ دين ما لا ترقى بالضّرورة إلى درجة إهانة مشاعر الشخص الذي يؤمن بذلك الدين." وعلاوةً على ذلك يجب ألا يتمّ تجريم الإهانات إلى المشاعر الدينيّة ما لم تحتوي على تحريضٍ على الكراهيّة.
وأقرّت المفوضية بأنّ الخط الفاصل بين الحديث المُهين والتحريض على الكراهية "غالباً ما يصعب تحديده." وتتضمّن العوامل ذات الصّلة نيّة المتكلّم المُتّهم أو المؤلِّف ومدى تأثير ما يصدر عنه والسّياق الذي صدر فيه التّصريح والجمهور المقصود وما إذا كان الشّخص الذي صرّح بذلك التّصريح يتحدّث بصفةٍ رسميّة.
وقد حذّر التّقرير أيضاً من كثرة الاعتماد على القانون كوسيلةٍ لقمع أحاديث الكراهيّة كونها قد تخلقُ توقّعاتٍ لا يمكن تحقيقها وقد تقدّم للمُذنبين نصراً إعلاميّاً من خلال تحويلهم إلى شهداء. يقول التقرير:
"حالها حال المشاكل الأخرى في المجتمع فإنّ إيجاد التّوازن بين حريّة الدّين وحريّة التّعبير ليست مَهمّة المحاكم في المقام الأول، بل هي مَهمّة المجتمع ككلّ وذلك من خلال المناقشات العقلانيّة بين جميع فئات المجتمع بما في ذلك المؤمنين وغير المؤمنين."
وفيما يتعلّق بمسألة العِرق والدّين فقد أقرّت المفوضية إلى حدٍّ ما أنّ هناك فرقاً بين الإهانات العنصريّة والإهانات الموجّهة ضدّ أتباع دينٍ معيّنٍ، وترى المفوضية أنّ "هذا الفرق قد دفع بالبعض إلى الاستنتاج بأنّ مجالاً أوسع من النقد مقبولٌ حينما يتعلّق الأمر بالدّين أكثر منه فيما يتعلّق بالعِرق،" ولكنها قالت إنّه لا يجب استخدام هذا الأمر كذريعة لإلغاء الحدود بين "المناقشة الفلسفيّة الصادقة التي تدور حول الأفكار الدّينيّة وبين الإهانات الدّينيّة الغير مُبرّرة."
وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة "غير مُبرّرة" وَردت في مواضع عدّة من تقرير المفوضية، وقد تكون اختباراً مُفيداً للكلام المرفوض. وحدّدت اللجنة اختباراً آخر وهو أن نسأل فيما إذا كان التّعبير عن الأفكار "يساهم بأيّ شكلٍ من أشكال النقاش العامّ الذي من شأنه تعزيز التّقدّم في القضايا الإنسانيّة". 29 كما ترى المفوضية أن ليس جميع الأفكار تستحق أن يتم تداولها حيث تقول:
"وبما أنّ ممارسة حريّة التّعبير تحمل في ثناياها واجباتٍ ومسؤوليّاتٍ، نتوقع من كل عضو في أيّ مجتمعٍ ديمقراطيّ أن يتجنب قدر الإمكان التّعابير التي فيها ازدراء أو التي تسيء للآخرين دون أيّ مبرّر وتتعدى على حقوقهم.
بإمكان الرّقابة الذّاتيّة المعقولة أن تساعد في إحداث توازنٍ بين حريّة التّعبير والسّلوك الأخلاقيّ، وقد يكون الامتناع عن التّفوّه بتعابير معيّنةٍ مقبولاً تماماً عندما تكون الغاية منه عدم إيذاء مشاعر الآخرين بلا مُبرّر، في حين أنّه غير مقبولٍ بصورةٍ واضحةٍ عندما يكون هذا ناجماً عن الخوف من ردود الفعل العنيفة."
وتقول المفوضية أنّه يجب ألا "تتراجع حريّة التّعبير كيفما اتفق" عندما تواجَه بردود فعلٍ عنيفةٍ، وتضيف: "قد يكون لدى أشخاص بعينهم حساسية مفرطة تجاه النقد في ظروفٍ معيّنة...ولا يجب أن يكون ذلك ذريعةً لمنع أيّ شكلٍ من أشكال النقاش."
يتألف العرب الغير المؤمن من كل من النّاشطين وغير الناشطين (الذين لا يفضلون تغيير الواقع)، وعلى عكس "الملحدين الجدد" يفضل بعضهم تفادي التّسبب في الإساءة حيث تقول بدرا وهي من لبنان:
"عندما أشعر أنني عاجزة عن ممارسة حقوقي على أتمّ وجه قد أختار عدم المواجهة لأنّ الثمن سيكون غالياً وأنا لا أرغب أن يتمّ استدراجي إلى معركةٍ غير مُجدية أو غير مفيدة، ودائماً ما أختارُ المُغادرة ليس بالضّرورة مباشرةً وإنّما عند نقطةٍ مُعيّنة، وأعتقد أنّني باتباعي لهذا الخيار تمكنت من الحصول على الحياة التي أريد دون أيّ أضرار أو بأقلّ ضررٍ ممكن."
يعتمد مدى قدرة غير المؤمنين على المُضيّ في تأكيد ذاتهم على ظروفهم الشخصيّة، والعيش كملحد في دولةٍ كالمملكة العربيّة السّعوديّة يستوجب تقديم المزيد من التنازلات أكثر من أيّ مكانٍ آخر، وهو ما يوضحه عمر هادي بقوله:
"سيَستاءُ المُتطرّفون من أيّ شيءٍ إلا أنّني لا أريد مهاجمة المجتمع، فأنا لا أصوم لكني لا أتناول الطّعام في شهر رمضان أمام أُمي لأنّ ذلك من شأنه أن يضايقها فأنا أحبها كثيراً. تَشُكُّ أمي أحياناً في أمري لكنها لا تسألني أبداً وأنا لا أحيد عن طريقي لكيلا أريها أيّ شيء. وكما أنّني أحترم أمّي ولا أريد إغضابها فإنّني لا أريد إغضاب المجتمع.
من الواضح أنّ هناك بعض الشخصيّات الدينيّة التي تحظى بشعبيّةٍ واسعةٍ...في اعتقادي هم منافقون وما هم عليه إنّما هو لأجل السلطة والمال ولكنّني أدرك في الوقت ذاته أن غالبيّة الشّعب تحترمهم ولا أريد الإساءة لأيّ شخص، وأرى أنه عليّ بنفسي فقط. كما أعي أن هذا يتعارض مع مفهوم حرية التعبير والحق في الإساءة، لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه."
وتعتبر معرفة أين نرسم الخطّ الفاصل في نقد الإسلام وممارساته سؤالاً مُهمّاً بالنّسبة للمسلمين السّابقين، أمّا بالنّسبة لأولئك الذين يعيشون في الشّرق الأوسط فإنّ هناك سؤالاً أكثر أهميّة وهو: كيف يحظى هؤلاء بقبول حقّهم في الإلحاد. لا يُعتبر هذا الأمر مسألة دينيّةً بقدر ما هو مسألة ثقافيّةً وسياسيّة، فهو يحوّل تركيز الصراع باتّجاه تحدي الحكومات والتّحيّز والتحامل الاجتماعي بعيداً عن الأديان. هنالك حاجتان مختلفتان إلا أنّهما مرتبطتان ببعضها البعض: الأولى هي حرّيّة المعتقد والثانية دولة علمانيّة، وكلاهما سيعودان بالفائدة على المسلمين وغير المسلمين والمسلمين السابقين على حدٍّ سواء.
إن تحدّي آراء الناس الدينيّة لا يعزز بالضّرورة من حرّيّة المعتقد، ومما لا شك فيه أن غير المؤمنين بحاجةٍ إلى إثبات وجودهم وإلّا فإنّه قد يتمّ تجاهل حقوقهم بكلِّ بساطةٍ، غير أن منهج "الملحدين الجدد" يميل أكثر إلى محاولة تشويه صورة الدّين بدلاً من التّشجيع على التّسامح، وهذا ما يؤدّي عادةً إلى نتائج عكسيّة عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي.
يُعدّ التّسامح مع الأقليّات بكافة أنواعها مبدأً ما زالت الحكومات والمجتمعات في المنطقة متردّدةً في تقبُّله، ويُنظر إلى التّعدّديّة على أنّها نقطة ضعفٍ بدل أن تكون نقطة قوّةً ممكنة، كما أدّى تطوّر السياسات الانتخابيّة في بعض الدّول العربيّة أيضاً بالبعض إلى الإفراط في تبسيط فكرة الأغلبية حيث لا يدركون حتى الآن أهميّة حماية حقوق الأقليّات.
إن العمل على تغيير هذا الواقع سيساعد غيرَ المؤمنين على تحقيق حرّيّتهم إلّا أنّهم لا يستطيعون تحقيقها بمفردهم فهم بحاجةٍ إلى تشكيل تحالفاتٍ مع الآخرين ممّن يسعون لتحقيق تغيير سّياسيّ واجتماعي، وقد يُضطرّون إلى إقناع الحلفاء المُحتَملين الذين قد يعتريهم الشك بأنّ حرّيّة الإيمان تصبّ في صالح الجميع بما في ذلك المؤمنين.
إن إحدى العقبات إلي تحول دون القبول الشعبيّ العامّ هي تلك الفكرة السّائدة بأنّ الإلحاد من شأنه أن يقود إلى الانهيار الاجتماعيّ وإشاعة الفجور، وهو ما يجب مواجهته والأدلّة اللازمة لذلك متوفّرةٌ وبكثرة، حيث تُظهر الأمثلة من أماكن أخرى من العالم أنّه من الممكن أن تزدهر المجتمعات غير المتدينة، ولا تعني الحريّة الّدينية بالضّرورة أنّ هناك انحداراً في المُعتقد الدّينيّ، إذ يُظهر مثال الولايات المتّحدة الأمريكيّة أن الحرية الدينيّة قادرة في ظروفٍ معيّنةٍ على الازدهار دون اللجوء إلى هذا النّوع من الدّعم المتواصل والإجراءات التي تُطبِّقها الحكومات العربيّة، وفي الواقع قد يعاني الدين على المدى الطّويل إذا كان مدعوماً من الحكومات.
ولتحرير أنفسهم من الدّين يحتاج غير المؤمنين إلى دولةٍ علمانيّةٍ، إلّا أنّ إحراز تقدم في العلمانيّة لا يجلب بالضّرورة تطوراتٍ في الحريّة الدينيّة إذ إنّ النوع التسلطي من العلمانيّة ليس أفضل حالاً من الأنواع التسلطية من الدين، لذا يجب تطوير العلمانيّة في إطارٍ من التسامح.
لقد أسيء فهم مفهوم العلمانيّة على نطاقٍ واسعٍ في البلدان العربيّة ولطالما تمّت مساواتها بإجحافٍ مع الإلحاد، وكلّما استمرّ هذا الفكر كلّما قلّ احتمال علمنة الدّولة، ولإحراز أيّ تقدّمٍ في هذا الاتّجاه يجب إقناع الناس أنّ العلمانيّة ليست طريقاً خفيّاً للإلحاد وإنّما هي طريق إلى الحريّة وذلك أنها تمنع الناس من فرض معتقداتهم على الآخرين، وقد تكون هناك حالات يجب فيها على غير المؤمنين الوقوف إلى جانب المؤمنين بدلاً من العلمانيّين الشديدي العداء للدين. فمثلاً قد يرحب غير المؤمنين بالحظر الذي فرضته سويسرا على بناء المآذن، لكن من المهم أإدراك التأثير السلبي الذي تركه ذلك على حرية المؤمنين. وبالمثل، فإن تأييد تشديد القيود التي فرضتها فرنسا على ارتداء الحجاب - في الوقت الذي نعارض فيه القوانين التي تلزم المرأة بارتداء زي معيّن في المملكة العربية السعودية - لا يبدو للوهلة الأولى موقفاُ ثابتاً ومنسجماً فيما يتعلق بالحرّية الشّخصيّة.
إن المكانة المتميّزة التي يحظى بها الدّين في الدّول العربيّة اليوم مشابهة تماماً لما كان عليه الحال في أوروبا، فأفلاطون عندما كان يدعو إلى عِقاب أولئك الذين "يتكلّمون أو يتصرّفون بوقاحةٍ" عن آلهة اليونان القديمة قبل أكثر من ألفي عام هو أشبه ببعض رجال الدّين السّعوديّين في القرن الحادي والعشرين.
غيرَ أن أوروبا اتجهت تدريجياً نحو العلمانيّةً وبات الإلحاد أمراً شائعاً جدّاً الآن، إذ إنّ الرحلة الممتدّة من اعتراف "توماس مور Thomas More " بعدم جدوى معاقبة غير المؤمنين - كون أنه لا يستطيع أحدٌ اختيار الإيمان بالقوة - إلى تقبّل الحقّ في الإلحاد لم تحدث بمعزل عن أمور أخرى، فقد تطوّر مفهوم الحرّيّة الدّينيّة بالتّوازي مع أفكارٍ سياسيّةٍ عن حكومةٍ محدودةٍ وسيادة الشّعب واستقلال الفرد بالإضافة إلى مُناخٍ فلسفيٍّ متغيّر حيث يقول " ستيفن غاي Steven Gey":
"لم يكن ممكناً الاستمرار في الهجمات الرّسميّة ضدّ الإلحاد في أوروبا الاستمرار في ظل الجوّ الفلسفيّ الأوسع الذي خلقه عصر التّنوير، وقد جَعلتْ التّجريبيّة والشّكّ الفكريّ والثورة العلمية التي رافقت عصر التنوير والسّياق الاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي حدثت فيه من الصعب الحفاظ على الحماية القانونيّة للسّلطة الدّينيّة." 30
إنّ إدراك أوروبا التدريجي بأنّ قمع الإلحاد هو وضعٌ غير قابلٍ للاستمرار يطرح احتمال أن تحذو الدول العربيّة حذوَها في نهاية المطاف، فالانفتاح الذي طرأ على الخطاب العام في السّنوات القليلة الماضية وتدفُّقِ الأفكار وتحدّي الوضع الرّاهن يشبه إلى حد ما ما جرى خلال عصر التّنوير في أوروبا وقد يكون لذلك التأثيرات ذاتها.
إنّ أحد العقبات الأساسيّة من النّاحية السياسيّة هي أنّ الأنظمة العربيّة ما زالت ترى في الدّين أداة مفيدة في ممارسة السّلطة، فهذه الحكومات تكون في وضع أفضل في فرض إرادتها عندما تزعم أنها تتصرف وفقاً لرغبة الله، كما أن أوروبا حُكمت لقرونٍ من قِبل ملوكٍ طالما ادّعوا "حقّهم الإلهي" بعروشهم، وهذا الأمر ما زال موجوداً حتى اليوم في أجزاء من الشّرق الأوسطـ بل حتّى أن الحكومات العربيّة الأكثر علمانيّةً تميل إلى إظهار مؤهلاتها الدينية، غير أن ذلك قد لا يستمرّ طويلاً إذ لطالما كانت مزاعم الحكومات بالشّرعيّة الدّينيّة بديلاً عن الشّرعيّة الانتخابيّة، لكن هذا الأمر يصبح أقل قبولاً لدى الشعوب العربية اليوم وقد يتحول إلى نقطة ضعف في المستقبل، فقد بدأ العرب يدركون أنّ الحكومات التّقيّة والورعة ليست كالحكومات المؤهلة والكفؤة.
إن الأمر بلا شك ليس بهذه البساطة، فالمملكة العربيّة السّعوديّة - وهي الحالة الأكثر تطرّفاً - تتصدى بحزمٍ ضدّ الحرية الدينيّة، ومالم تحدث ثّورة سيكون من الصّعب رؤية أيّ تغييرٍ على المدى المنظور، ولكن التّصدّعات بدأت تظهر في أمكنة أخرى، كما أنّ الحكومات العربيّة قلقةٌ جداً بشأن صورتها على المستوى الدولي وبدرجات متفاوتة وتشعر بأنّها باتت مُضطرة إلى تقديم الوعود بإعطاء الناس حقوقهم حتى لو كانت تعارضُ تطبيقها على أرض الواقع. ينصّ الدستور التونسي ما بعد الثّورة على أنّه "على الدّولة حماية الدّين وضمان حريّة المعتقد والضمير والممارسات الدينيّة." أما الدستور المصري الذي أُقر سنة 2014 فينص على أن "حرية المعتقد مُطلقة،" وينصّ الدستور العراقيّ ما بعد صدّام حسين على أنّ "لكلّ فردٍ حرية الفكر والمعتقد والضمير." لقد قبلت الحكومات العربية بهذه المبادئ رسميّاً، لكن ذلك كان لأجل المداهنة فحسب، وما عليها فعله الآن هي الشرّوع في تحويل هذه المبادئ إلى واقعٍ ملموسٍ.
الإشعار القانوني
تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com
ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا: