Arabs Without God: Chapter 5

الفصل السادس: امتيازات الدِّين
الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً
الفصل الثامن: الحقّ في الإساءة
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
المصادر والملاحظات
مقدمة
الفصل الأول: إنكار الله وهدمُ المجتمع
الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي
الفصل الثالث: كتابُ الله
الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم
الفصل الخامس: الإلحاد والجنس

الفصل الخامس: الإلحاد والجنس (النوع) والميول الجنسيّة

هيمن الرِّجال على الدّين على مرّ التاريخ البشري، فالأنبياء ورجال الدّين والكهنة كلهم ذكور، أضف إلى ذلك أنَّ الله يشار إليه كمذكّر، بينما كانت النّساء في ذلك الوقت تقوم بدور المستمع فقط. حاولت بعض الكنائس في الغرب في ذلك الوقت معالجة قضية المساواة بين الجنسين حيث أصبح هنالك قساوسة من الإناث، إلّا أنَّ الدّين في الشّرق الأوسط ما يزال ذكورياً خالصاً؛ كما أنَّ التعاليم الدّينيّة غالباً ما تهيئُ أسباب التمييز والتهميش ضدّ المرأة. وبالتالي يمكن القول أنَّ للنّساء في الشّرق الأوسط أسبابٌ أكثر من الرِّجال للتخلي عن الدّين. مِنَ المؤكّد أنَّ منهنَّ مَنْ تمرّدتْ وتركت الدّين؛ إلّا أنَّ البيئة الاجتماعية التي خلقها النّظام الذّكوري تجعل مجرَّد التفكير في القيام بذلك أمراً صعباً على الأخريات.

أمّا أولئك اللائي نجحنَ في الرِّدَّة فلهن خلفيات متعددة، كما في هاتين القصتين المختلفتين: القصّة الأولى هي قصة اللبنانية بدرة التي رفضتْ النّظام الذّكوري بوجهيه العلمانيّ والدّينيّ، والثانية هي قصة نُهى محمود سالم، وهي سلفيّة مصريّة كان سلوك زوجها أحد أهمّ أسباب إلحادها.

نشأت نهى في عائلة متدينة تقليدية، وحصلت على جائزة في حفظ القرآن؛ وفي المدرسة الثانوية، طلب منها معلمها ارتداء الحجاب قائلا: "على الطالب الجيد أنَّ يكون ذا أخلاق حميدة." ثم ارتدَتِ النقاب الذي يغطي الوجه بالكامل لكن الشّكوك راحتْ تراودها بعد أن تزوّجتْ. تكمل صحيفة The Egypt Independent المصريّة قصة نهى:

"صفعها زوجها ذات يوم؛ وعندما اشتكت لوالدها قال لها أنَّ لزوجها الحقّ في ضربها كما جاء في سورة النّساء ، ثم بدأت تتساءل كيف أعطى الله للزوج الحق بهجر زوجته وضربها... في حين يحرّم الإسلام أذية الحيوانات؟ هلِ النّساء أقلّ شأناً من الحيوانات؟ هل لأنَّ المرأة هي أضعف من الرِّجال، ولا يمكنها الرّدّ؟ كيف يمكن السماح بإذلال النّساء؟"

ثم بدأت تلك العلاقة في التدهور، فأصبح زوجها يتركها وحدها في المنزل؛ حتى أنّه رفض أنَّ يشتريَ لها جهاز تلفزيون لأن ذلك حرام برأيه. وتتابع الصحيفة:

"اشتكت نهى زوجها مرةً؛ مشيرة إلى نفاقه حين رأته يشاهد التلفزيون في بيت والدته. فردّ بضربها أمام والدته. جعل هذا الموقف نهى تعيد النظر في القرآن كله، لا في سورة واحدة فقط. بعد ذلك قرأت نُهى في أحد الكتب أنَّ السورة نزلت في ظروف لم تعد موجودة في الحياة الحديثة والثقافة التي نعيشها الآن." 1

كما أنَّ إلحادها أنهى زواجها، فزوجها يؤمن أنَّ الإسلام نهى عن الزواج من امرأة مرتدة.

أمّا بدرة، وهي ابنة مدينة طرابلس اللبنانية، فكان لها قصّةٌ مختلفةٌ في رحلتها إلى الإلحاد رغم أنّها أيضاً تضمّنت النّظام الذّكوري. لقد كان شغفها بالكاتبة الوجودية الفرنسية "سيمون دي بوفوارSimone de Beauvoir" في سنّ المراهقة أحد أسباب إلحادها كما أنَّ حقيقة أنّها نشأت بلا أبٍ - التي تعتقد أنّها "حررتها" من حاجتها إلى "أب" روحي في الجنة - ساهمَ في إلحادها. تقول بدرة: " لعب فقداني لوالدي في سنّ الخامسة دوراً حاسماً في تقليص دور الدّين في حياتي." وتتابع قائلة:

"ارتبط الدّين، بالنسبة لي كطفلة، بالموت بشكل رئيس. تولِي ثقافة الأسرة طقوس الحداد أهمية كبيرة؛ حيث تلبس النّساء السواد مدّة طويلة، وتُمنع مشاهدة التلفاز وسماع الإذاعة - اللواتي تُعَدُّ من وسائل الترفيه - في فترة الحداد؛ ويُتلى القرآن في كلّ مأتم. تسرّب الشك إلى نفسي لأول مرة عندما كنّا نستمع إلى القرآن في أحد المآتم، حين أحسستُ أنَّ سماع القرآن عدوانيّ وحزين وسلبيّ. أصابتني كآبة شديدة عندما كانوا يتلون علينا سورة يس في أوقات الحداد. لقد كان الأمر مخيفاً جداً بالنسبة لي لاحتوائها الكثير من السلبية والوعيد للكافرين الذين اعتبرهم القرآن عنيدين للغاية، رغم أنّه نصّ قويّ وجميل نوعاً ما.

كنتُ طفلة صغيرة تلقتِ القرآن بطريقةٍ عدوانيةٍ جداً، خاصة أنّه ارتبط بأجواءَ كئيبةٍ جداً، كفقداني لأحبابي، واتشاحٍ النّساء بالسواد، وبكاء النّاس، وزيارة القبور في الصباح. كان هذا أوّلَ لقاء حقيقي لي مع الدّين." 2

سميت سورة يس بهذا الاسم لأنّها تبدأ بحرفي الياء والسين، وتسمى "قلب" القرآن. يقول أبو علاء المودودي، (1903-1979)، وهو أحد أبرز المنظّرين الإسلاميين، أنَّ ما تحتويه السّورة من تقريعٍ وتحذيرٍ "قد قُدم بطريقة قويّة للغاية بحيث تهتزّ لها القلوب التي فيها بقيةٌ من قابليةٍ لقبول الحقيقة." 3

وجاءت المواجهة الرئيسة الثانية لبدرة مع الدّين عندما كانت طالبةَ ففي المدرسة. كانتْ والدتها شيعيّة وكان والدها سنيّاً، لكنّها درست في مدرسة مسيحية للبنات تديرها الراهبات. وتضيف قائلة:

"إنَّ عدم وجود مرجعية واحدة لي أنقذتني من الدّين بطريقة أو بأخرى. في المدرسة يذهب الطلاب المسيحيّون إلى الدّروس الدّينيّة المسيحيّة في الوقت الذي يستريح فيه الطلاب المسلمون لمدة ساعة... إلى أنَّ تأسّست حركة التّوحيد الإسلاميّة في طرابلس في ثمانينات القرن العشرين، وبدأتِ الأمور تتغيّر. فجأة ملأتِ الميليشيات الشوارع وراحتْ تحذّر الفتيات الصّغيرات والنّساء من ارتداء القمصان قصيرةِ الأكمام أو التنانير القصيرة.

كنت حينها في الثانية عشرة من عمري. وأُجبرَتِ المدرسة على إعطاء الطلاب المسلمين دروساً في القرآن عند ذهاب الطلاب المسيحيين لحضور الدروس الدّينيّة. لقد شكّل ذلك فرصة لي لإعادة استكشاف الدّين.

تأثّرتُ في البداية بهذه الحركة الثقافية الإسلاميّة في المدرسة، وحضرتُ الدروس الدّينيّة. لقد كانت ممتعة في البداية، وأخذتُ الأمر بجدّيّة لأنّه كان شيئاً جديداً، كما أنَّ الدّروس الدّينيّة أفسحت ليَ المجال للتفكير والمناقشة.

كنتُ وقتها مع جدتي، ورأتني أصلّي. في مرحلة معينة أردتُ أنَّ أصلي الصلوات الخمس، ولكنني كنت أعيش أحلام اليقظة؛ لذلك كان من المؤلم بالنسبة لي الالتزام بها. أردت أنَّ أكون إنسان صالحة وأؤديها ولكن في نفس الوقت أردتُ عذراً لتركها.

رأتني جدتي وقالت لي: "ماذا تفعلين؟" في الواقع لم تُرِدْ لي جدتي أنَّ أصلّيَ لأنّها كانت مسلمة سنيّة ولا تريد لي أنَّ أصلي على طريقة والدتي الشيعية.

أعتقد أنَّ ذلك يُعزى لأسباب اجتماعية أكثر منها دينية؛ لأنَّ أهل السنة ينظرون للشيعة نظرةَ ازدراء. كانت جدتي خائفة من بعض الطقوس لدى الشيعة، ولا تريد لي أنَّ أتأثر بها، ورغم أنّي كنت ممزّقة بين اثنين من الولاءات، ورغم أنّي شعرت بإجحافٍ في الحكم نحو أمي، إلّا أنَّ هذا الأمر ساهم في تبديد الحماسة الجديدة لديّ تجاه الدّين والالتزام الذي يوجبُه."

راحت بدرة في هذه الأثناء تقرأ في مدرستها عن الأدب الفرنسي والوجودية، فتقول في ذلك:

"بهذه الطريقة ابتعدتُ عن الدّين. كنتُ أقرأ مؤلفات "سارتر" و"دي بوفوار" وفي وقت لاحق مؤلفات "كامو"، ولكن أكثر ما قرأت هو كتاب Mémoires d’une Jeune Fille Rangée" (مذكرات ابنة مطيعة) للكاتبة "سيمون دي بوفوار." كانت الكاتبة تتحدث عن نفسها عندما كانت مراهقة فوجدتُ أنَّ قصتها تشبه قصتي وكيف أنّها تركت أسرتها الكبيرة شيئاً فشيئاً، وكيف أنّها اتخذت قراراتٍ لم تتوقعها عائلتها منها.

كان هذا الكتاب بالغ الأهمية بالنسبة لي لأنه كان قصة حول بناء الهوية. إنَّ قصة "سيمون" الفتاة الشابة المنحدرة من أسرة محافظة، والتي أصبحت تُعرف لاحقاً بـِ "سيمون دي بوفوار"، ونمط العلاقة التي ربطتها لاحقاً "بجان بول سارتر" كانت رائعة بالنسبة لي كفتاة من طرابلس، وقد جعلتني أحلم بأن أفعل مثلها، لأكتشف العالم والأدب، وأنْ يكون لي أصدقاء يفكرون بطريقة مختلفة، وأنْ أحاول تغيير بيئتي وطريقة تفكيري.

كان لي في المدرسة مدرسون مثيرون جداً للاهتمام ممّن لم يُظهروا أيّ شكلٍ من الإلحاد لكنهم قدموا لنا هذا النوع من الأدب الذي لم يكن جزءاً من المنهاج الدراسيّ، فقد كانوا حريصين على تطوير التفكير النقديّ لدى الطلاب، وقد قدموا لنا مفاهيم التنوع الثقافي وشموليّة القيم الإنسانية، وأفكاراً - كالوجودية - لم تكن تُدَرَّسُ في المدرسة ولكنّها كانت مقبولة.

كما أنَّ مدرّس مادة الأدب الفرنسي، الذي كان يدرسنا مسرحيات "راسين" Racine و"كورني" Corneille و"موليير Molière" الكلاسيكية، فتح لنا باباً صغيراً على النصوص الحديثة، وهو ما منحني الفرصة لقراءة بعض مسرحيات "سارتر" و"كامو" عندما كنتُ طالبة في المدرسة.

توقفت عن الإيمان بوجود الجحيم عندما قرأتُ مسرحية "سارتر" بعنوان "أبواب مؤصدة" Huis Clos. رغم أنَّ المسرحيّة لا تتطرّق لمسألة الدّين إلّا أنّي وجدت فيها لغة جديدة ومعجماً جديداً. لقد كان مصطلح "الجحيم" شيئا آخر بالفعل. كنت في سنّ المراهقة، وبعد مضي عام على أخذي لهذه الدروس الإسلاميّة في المدرسة تغيرت اهتماماتي كلياً."

ترى بدرة أنَّ موت والدها وهي فتاة صغيرة ساهمَ في عدم حاجتها إلى لله، فتقول: "إنَّ حقيقة عدم وجود أب لي جعلني متحررة بطريقة أو بأخرى... وتوصلتُ من تجربتي الخاصّة إلى نتيجة مفادها أنّي أستطيع أنَّ أعيش وأكبر دون أب."

يقول عالم الاجتماع السوري حليم بركات أنَّ الأب يتزعّم الأسرة العربيّة التقليديّة فيأمرها "باحترام تعليماته والالتزام غير المشروط بها" تماماً كما يفعل الله 4، ويرى أنّه في المجتمع العربي يتمتع ربّ الأسرة ورئيس الدولة والله بالكثير من الخصائص المشتركة، فيقول: "هُمُ الرّعاة، ومن سواهم هم الخراف." 5 لقد كان هذا "الهرم الاجتماعي" أحد الأسباب التي دفعت امرأة شابة أخرى بعيداً عن الإسلام، وهي المصرية ريم عبد الرازق التي تقول:

"مَثلاً كثيراً ما كنت أقرأ عن العبيد وأنا أقرأ القرآن، وقد ذُكروا 29 مرّة، فلم أفهم كيف أنَّ الله الذي يدعو للعدل والمساواة، والذي أرسل رسالة يُفترَضُ بها نشرُ السلام، أنَّ يسمح لشخص باستعباد شخص آخر.

ليس ذلك فحسب، ولكن في حال كان العبد أنثى فيسمح لمالكه بإقامة علاقة جنسية معها، لكنّي أعتبر ذلك اغتصاباً، لقد كان هذا الأمر من أهم الأشياء التي جعلتني أرى أنَّ الإسلام بدا غير ما كنّا نتعلمه."

كما أنَّ كثيراً مِنَ الذّكور الذين أجريتُ مقابلات معهم ذكروا هيمنة الذّكور على المجتمع كأحد الأسباب التي دفعتهم لرفض الدّين؛ حيث يقول "الملحد العربي": "إنَّ معاملة النّساء في الإسلام كانت عاملاً أساسياً في إلحادي؛ لقد لاحظتُ حالَ النّساء في الغرب وكيف يختلف عن حال جميع النّساء في بلدي وبدأتُ أرى كيف يسيء الإسلام معاملة المرأة."

ويضيف أحمد سعيد: "حتى عندما كنتُ مسلماً كنت أعتقد أنّه بالرغم من أنَّ الإسلام كان الدّين الحقَّ، وأنّه كلام الله، كان هنالك مَنْ يُحرِّفُ هذه الكلمات عن مواضعها لتحقيق مآربه الشخصية؛ فيتسلّطون على أسرهم، وربما يمارسون العنف المنزلي دون رادعٍ مِنْ أحد. انظر إلى كُرْهِ المملكة العربيّة السعودية للنّساء، نحن نعيش في منطقة يسيطر الأب فيها على الأسرة بأكملها."

بالنسبة لليمنيّ يحيى، كانت هذه واحدة من الأشياء التي جعلته "يشعر بالانفصال" عن الدّين؛ وذلك عندما كان في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، فيقول: "حين كنتُ أقرأ القرآن كنت أشعر أحياناً أنّه لم يكن كلامَ الله، بل مجرَّد كلامٍ بسيطٍ يمكن لأيّ شخصٍ أنَّ يقوله؛ كان فيه ما لم أقتنع بها؛ كتفضيلُ الذّكور على الإناث مثلاً. عندما كنت طفلاً بدا لي أنَّ هذا كلام لا معنى له، فكيف يمكن أنَّ يكون أبي أفضل وأعظم من أمي؟"

فالاختيار بين الإيمان ونقيضه، بالنسبة لكثيرٍ من النّساء العربيّات، ليس خياراً بسيطاً في واقع الحال. تقول نبيلة من البحرين: "هنالك الكثير من الضغط على النّساء لإلزامهنَّ بتعاليم الإسلام، حتى في أبسطِ أمورهنّ، كالعثور على شريك أو الدخول في علاقة ما. كلّ أمرِ النّساء بحسبانٍ، ويخضع للرقيب."

وتضيف نبيلة:

"كانت البحرين رائدةً بين الدّول العربيّة من حيث مراعاتها لحقوق المرأة، ومشاركة المرأة في الحياة السياسيّة، ولكنّها أصبحت أكثر تقييداً بعد الثورة الإيرانيّة. كانت الأمور مختلفة قبل الثورة الإيرانيّة... فقد كانت النّساء أكثر انفتاحاً وتمرّداً، وأكثر تأييداً للمساواة مع الرّجل ممّا هنّ عليه اليوم. أمّا اليوم، فحتى والدتي، وهي من مؤيّدي المساواة، تريد منّي إيجاد حلّ وسط، لأنّي إنَّ لم أساوم فلن أكون مقبولة. وأنا بدوري قد ساومتُ إلى حدّ ما وقدمتُ بعض التنازلات؛ فكنتُ أتصرف أمام جدَّيَّ مثلاً وكأنّي مسلمة لأنهم سيقلقون أنَّ لم أفعل ذلك؛ وسيشعرون أنّهم أخطأوا ولم يتمكنوا من توجيهي نحو جادة الصواب. إنَّ كوني امرأةً ملحدةً هو أسوأُ بكثير لأنّي، برأيهم، لن أكون قادرة على العثور على زوج وأشياء من هذا القبيل. لقد عرفتُ الكثير من الفتيات اللواتي وجدنَ صعوبة في الإلحاد؛ رغم أنَّ شكوكاً حول الدّين كانت تساورهنّ، فهنَّ يعتقدنَ أنَّ الإلحاد سوف يبدّدُ فرصهنَّ في العثور على زوج."

وفي مصر تمكنت ريم عبد الرازق من ترك الدّين لكنها تعترف بوجود صعوبات تواجه النّساء الأخريات، فتقول:

"هناك الكثير من النّساء في مصر يعتقدن أنّهن أقلّ شأناً من الرّجل. لا أقول إنهن تعرّضن لغسيل الدماغ. بطبيعة الحال يمكن أنَّ تدفعهنَّ الضغوط للشعور بالظّلم، إلّا أنَّ معظم النّساء اللاتي قابلتهنَّ يقلنّ لمن هي ليست منهنَّ: هذا هو خيارنا. وهو متروك لنا، ولم نكنْ مجبراتٍ على اتخاذه؛ أمّا عندما يكون الكلام بيننا، نحن النّساء العربيّات، فتقول إحداهنَّ: أود أنَّ أخلع الحجاب لكنّي أعرف أنني لا أستطيع." فالأمر إذا هو نوع من قبولٍ بالواقع أكثر منه تمرداً ضده."

وتقول نبيلة: "عندما تراودك هذه الأفكارُ، تساورك تلك الشّكوك، ولكننا مقيدات للغاية. إنَّ الدّين في هذا الجزء من العالم هو جزء من النّظام، فهو ليس في أسرتك فقط، بل في النّظام برمته، في مدرستك، وحتّى في القوانين الخاصّة بك، وهو ما يجعل الفِرارَ منه صعباً جداً."

تصف سارة، وهي سورية الأبوين، كويتية المنشأ، زيارة عائلتها للأصدقاء:

"كنّا نذهب إلى منزلهم كثيرا لأنهم سوريون. كان الرّجل سنيّا، بينما كانت زوجته علوية ترتدي الحجاب. كانت زوجته تلزم الصمت طوال فترة الزيارة؛ رغم أنَّ للزوجين مستوى التعليم ذاتَه، ويعملان في المجال نفسه، فقد كانا ممرضين.

عندما كنّا نجلس ونتحدث، تبقى هي هادئةً دائماً. كان أطفالهم أذكياءَ جداً. أحد أكثر الأشياء التي آلمتني، وأحد الأسباب الرئيسة التي دفعتني لاحتقاري لهذا الرّجل ولدينه، كان صمتَ زوجته الدائم. لم تكن تقْدِمُ على التكلم كثيراً بوجود زوجها، وكان عليها أنَّ تجلس فقط، وتقوم بما تقوم بها المرأة، أيّا كان ذلك."

كان لديه ابنة، ربما أصبحتِ الآن في السادسة عشرة من عمرها. كانت جميلة جداً ولامعة. ويؤلمني جداً أنَّ صوتها لن يكون مسموعاً أبداً."

ولكنّ سارة أيضاً تعلّمت من تجربتها المؤلمة أنَّ للتمرّد ثمن، فتقول:

تزوّجتُ عندما كان عمري 18سنة، وكان زوجي السابق متديّنا جداً، وعنيفاً، وقال لي أنّه يريد أطفالاً منّي وأنْ أغطّيَ جسمي كلّه فيما عدا عينيَّ ولهذا السبب هربت.

لم أكنْ أعرفُ أين سأهرب. ذهبتُ إلى "كيبيك" Quebec في كندا وتواريتُ عن الأنظار. بقيت عاماً بلا مأوى، وكنتُ أستقلُّ أيّ سيارة كانتْ، وآكلُ من صناديق القمامة، وأنام على الأرصفة. أمّا الآن فأنام عند صديقة لي، لكنني، على الأقل، وجدت مأوىً، وأحاول الآن تنظيم حياتي."

وتتأمل سارة أحيانا فيما قد ضحّت به، فتقول:

"أسأل نفسي: هل أريدُ أنَّ يكون لي صوتي وحريّتي، أم أريدُ أنَّ يكون لي بيتٌ وأسرةٌ وطعامٌ؛ أنَّ أكونَ تحت سقف بيتٍ ما، وألّا أقلق بشأن المال؟ أعلم أنَّ الكثير من النّاس يقولون بأنهم يفضّلون الحريّة، إلّا أنّي كثيراً ما أشعر أنني سأُضْطَرُّ للتخلّي عن هذا الخيار مقابل الأمن."

إنَّ ربط الإلحاد بانعدام الأخلاق يشكّل رادعاً للنّساء المشكّكات بالدّين، فالمجتمع العربيّ يتوقع منهنَّ أنَّ يتمتّعنَ بالفضيلة، وألّا يتمرّدنَ، وإلّا فلن يتزوجنَ. وقد نَشرتْ صفحة الملحد العربي على فيسبوك منشوراً يقول: "من الصعب إعلانُ الإلحاد؛ لأنَّ المجتمع سيعتبرك على الفور منعدماً من القيم الأخلاقيّة. وهذا أكثر ما يؤثّر على الفتيات؛ فقد كان علينا إزالة أسماء أعضاء الصفحة من الإناث لحمايتهنّ من الأسرة والمجتمع." 6

ومن الواضح أنَّ مِثلَ هذه الضّغوط الاجتماعيّة ليست السبب الوحيد الذي أبقى العديد من النّساء متشبثات بالدّين. في الغرب، كانت العلاقة بين الدّين وجنسِ الشَّخص (النوع) مَدارَ أبحاثٍ اجتماعيةٍ عديدة، وقد وجدتِ الكثيرُ من الدراسات أنَّ المرأة عموماً قابلةٌ لأنَّ تكون "أكثر تديناً" من الرّجل، وهذا ينطوي على تناقضٍ واضحٍ؛ فالمرأة يتمّ إخضاعها بواسطة الدّين، وتلقى فيه دعماً وسنداً في الوقت ذاته.

وقبل النّظر في التّفسيرات المحتملة لهذا الأمر، من الضّروري أخذ الحذر، فمعظم الأبحاث التي تمّ نشرها - بما في ذلك النتائجُ التي تقول أنَّ المرأة " أكثر تديناً" من الرّجل - تتعلق بأشخاص ذوي خلفيّة ثقافيّة ودينيّة مسيحيّة يعيشون في الغرب، ولا تنطبق حالتهم على حالة المسلمين بالضرورة؛ وخاصةً أولئك الذين يعيشون في الشّرق الأوسط، حيث أعطتْ دراسة مقارنة أجريت سنة 2001، وشملت مسيحيين وهندوس ويهود ومسلمين ممَّن يعيشون في بريطانيا، نتائجَ مختلفة؛ ففي الجماعات غير المسيحيّة، ظهر أنَّ المرأة "أقل نشاطاً دينياً بشكلٍ لافتٍ" من الرّجل، وهذا ما دفع المشرفين على الدّراسة للتشكيك في الرأي القائل بأنّ النّساء أكثرُ تديناً من الرِّجال؛ مستندين في رأيهم إلى أنَّ الأبحاث السابقة أُجريت في إطارِ ثقافةٍ محدّدة، وتتوقّف على طريقة القياس المستخدمة. يقول المشرفون على الدراسة:

"تُفرِّق الكثيرُ من التقاليد الدّينيّة بين الواجبات الدّينيّة للرجال من جهة وللنساء من جهة ثانية، وتضع مزيداً من الأعباء على عاتق الرّجل في أداء الفرائض "الدّينيّة" كالصلاة ودراسة النصوص الدّينيّة؛ كما أنَّ الدّيانتين اليهوديّةَ والإسلامَ تفرضانِ على النّساء واجباتٍ دينيةً أقلَّ إجهاداً من واجباتِ الرِّجال في بعض النواحي، وذلك بسبب دورهنّ التقليديّ في العناية بالمنزل ورعاية الأطفال.

فعلى سبيل المثال، يكون حضور النّساء في أماكن العبادة الإسلاميّة واليهوديّة أقلّ مقارنةً بالرجال... فالنّساء المسلمات لا يدخلنَ المسجد في المحيض، كما أنَّ النّساء ذوات المسؤوليات العائلية قد يَكُنَّ أقلَّ التزاماً بالصلاة والانخراط في الدراسة الدّينيّة. وبالتالي قد تظهر النّساء اليهوديّات والمسلمات من ناحية النّشاط الدّيني أقل "تديناً" من الرِّجال اليهود والمسلمين." 7

وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الدراسةَ لم تكن معنيةً بالإيمان، بل بالنشاط الدّيني؛ وبعدد المرّاتِ التي يحضرُ النّاس فيها أماكنَ العبادة للصلاة ودراسةِ النصوصِ الدّينيّة على وجه التحديد.

رغم قلّة الأدلّة على أنَّ الاعتقاد السائد بأنّ "النّساء أكثر تديناً من الرِّجال" ينطبق على النّساء العربيّات، والمسلمات منهنَّ تحديداً، إلّا أنّه يجدر بنا النظر في الفروق المحتملة بين العوامل التي تجذب الرِّجال والنساء نحو الدّين، والدورِ الذي يلعبه الدّين في حياتهم. ونكرّر هنا أنَّ معظم البحوث والنظريات تتعلّق بالمرأة في الغرب؛ ولكن من السّهل أنَّ نرى كيف أنَّ بعضاً منها قد تكون ذات صلة بالدول العربيّة.

فعلى سبيل المثال، قيل أنَّ مشاركة المرأة في الدّين قد يؤثر في دورها المنزليّ، وتقول أحد الأفكار أنَّ الأمهاتِ، باعتبارهنّ يقضينَ معظم وقتهنّ مع الأطفال، سيكنَّ مسؤولاتٍ عن غرس القيم الأخلاقية فيهم؛ وأن تكون مثالاً لأبنائها في الممارسات الدّينيّة. وهناك فكرة أخرى تقول بأنّ النّساء اللاتي يقضينّ معظم وقتهنَّ في المنزل "قد لا يجدنَ أنفسهن في مواقفَ تدفعهنَّ للتفكير بشكل نقدي" بخصوص معتقداتهنَّ الدّينيّة. أمّا الفكرة الثالثة فتقول أنَّ الدّور التقليديّ للمرأة، كالولادة والعناية بالأطفال والمرضى والمحتضَرين من الأقارب، يضعهنَّ "في علاقة مباشرة مع مشاكل الحياة والموت"؛ ممّا يؤدي ببعضهن للبحث عن الرّاحة النفسيّة في الدّين. 8

ويبدو أنَّ لعامل “الرّاحة النفسيّة" الذي يوفّره الدّين أهميّةً خاصةً بين الفئات الاجتماعية المهمَّشة، بما في ذلك الأقلياتُ العرقيّةُ والنساءُ. وفي ذلك يقول “ميلاني بروستر” Melanie Brewster:

"قد يداوي التديّن مشاعرَ الإحباط والخوف والقلق، ولكنَّ أعراضَ الكرْب هذه ناتجةٌ عن التّهميش والتّمييز والتحيّز المتفشيّة في المجتمع، وليست سمةً من السِّمات الفطريّة في الإنسان؛ وقد وجدتِ الكثيرُ منّ الدّراسات أنَّ مَنْ ينتمون إلى جماعاتٍ مضطهَدةٍ اجتماعياً يلجؤون إلى مجتمعاتِهِمُ الدّينيّة طلباً للدعم والمساندة ..." 9

ويرى "بروستر" أنَّ الرِّجال أقلُّ حاجةً لهذا النوع من الدعم بسبب وضعهمُ المميّز نسبياً.

في بلدان كمصر ولبنان، حيث لا يُعتبَر تغيير الشخص لدينه أمراً مخالفاً للقانون وحيث التنافس بين الطّوائف قويّ، قد يسبّب تغيير النّساء لدينهنَّ مقارنة بالرجال - سواء كان فعلياً أو مجرَّد شائعات - جدلاً أكبر، ففي العام 2012 اختُطِفَ كاهنٌ مسيحيٌّ تحت تهديد السلاح في منطقة البقاع في لبنان لتعميده امرأةً شيعيّةً هربت من منزلها بعد اعتناقها المسيحيّة، وقدِ اتَّهَمَ كلّ طرفٍ الطرفَ الآخر بالإساءة، وقال رئيس أساقفةٍ لبنانيٌّ للصحافة أنَّ والد المرأة، وهو رجلُ دينٍ شيعيٌّ، قد أخضعَ ابنته للتعذيب الجسديّ والنفسيّ لاعتناقها المسيحيّة. أمّا والدها فقد صرّح على شاشة التلفزيون المحليّ أنَّ الرهبان والكهنة قد "مارسوا السحر والشعوذة" على ابنته لكي تعتنق المسيحيّة. 10

إنَّ قصصاً من هذا القبيل لا علاقة لها بالدّين نفسه، ولكنّها تكشف الكثير من المواقف تجاه المرأة؛ حيث يتمّ توسيع المفاهيم القديمة عن الأسرة وشرف القبيلة ويتم تطبيقها على الدين. ولابدّ من فرض حراسةٍ مشدّدةٍ على المرأة باعتبارها مستودعاً للفضيلة، خاصةً أنَّ الأديان الأخرى، برأي البعض، تحاول إغرائها لتغير دينها.

وفي سنة 2010 اندلعتِ المظاهراتُ في مصرَ واستمرّت أسابيع عدة؛ وذلك على خلفيةِ قضيةِ كاميليا شحاتة، وهي زوجة كاهنٍ قبطيٍّ أُشيعَ أنَّ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أودعَتها السجنَ لاعتناقها الإسلام. بدأتِ القضيةُ عندما أبلغ زوج كاميليا عن اختفائها، ليتّضحَ لاحقاً أنّها تركتِ المنزلَ بسببٍ خلافٍ مع زوجها؛ ورغم ذلك سرَتْ شائعةٌ تقول أنّها اختُطِفَتْ وأُجبِرَتْ على اعتناق الإسلام؛ ممّا دفع المئاتِ من المتظاهرين الأقباط إلى النزول إلى الشوارع. كشفتْ تحقيقاتُ الشرطة أنّها لم تُحْتَجَزْ رغماً عنها، وقيل أنّها بقيت في مكانٍ خاصٍّ بالكنيسةِ القبطيّةِ لم يُكْشَفْ عنه. أثار ذلك شائعاتٍ واحتجاجاتٍ جديدةً، وهذه المرّة من قبل المسلمين الذين يؤمنون أنَّ كاميليا أسلمت بملء إرادتها وأنها اُحْتُجِزَتْ من قِبَلِ الكنيسة؛ وتعليقاً على هذه القضيّة، كتب "ماريز تادروس Mariz Tadros ":

"من البديهيّ في المجتمعاتٍ الذكوريّة أنَّ تُربَطَ مفاهيمُ الشرف بالنساء، فمظاهرات المسيحيين الأقباط في صعيد مصر على خلفية "اختفاء" كاميليا أجّجها الشعورُ بأنّ الأقباطَ قد خسروا زوجةَ القسّ لصالح الأغلبيّة المسلمة التي يرون أنّها مصممة على ابتلاعهم. دائماً ما ترتبط ظاهرة الاختطاف في مصر بالمرأة، وليس بالرجل؛ حيث يُعتقدُ أنَّ سبب الاختطاف هو إجبارها على تغيير دينها.

وحين اندلعت مظاهرات المسلمين بعدها، وعمَّتْ أنحاء مصر، كانت تُغذيها الرغبة في تحرير كاميليا، والتي زعموا أنّها ارتدتِ النّقاب، من براثن الكنيسة.

وكانت المظاهرات تطالب بالدّفاع عن شرف المسلمين فهو حق لهم؛ وكاميليا في نظرهم أختٌ لهم في الإسلام. لم يسبق أنَّ شارك عددٌ كبيرٌ من النّساء المنقّبات في مظاهراتٍ احتجاجيّةٍ كتلك.

تحصل بالتّأكيد وبشكلٍ متكرر توتّراتٌ واشتباكاتٌ طائفيّةٌ من أجل الأرضِ، ودورِ العبادة، أو بسبب تعليقاتِ الزعماءِ الدّينيّين، لكنْ لم يسبق لهذه التوتّرات أنَّ ألهبتْ خيالَ المسيحيين والمسلمين كما هو الحال عندما تتولد بسبب المرأة في هذا المجتمع الذّكوريّ الخالص." 11

في السودان، أُدينت مريم إبراهيم البالغة من العمر 27 عاماً بالرِّدة، وحُكِمَ عليها بالإعدام. وفقاً للعُرْفِ السائدِ هناك. أعطتها السّلطاتُ السّودانيّةُ فرصةً لتعودَ عن قرارها؛ لكنّها رفضت قائلةً أنّها لم تُقْدِمْ على شيء لتتراجع عنه. لم تكن هذه الحالةُ مرتبطةً بالدّين، بل بهيمنة الذّكور على المجتمع وبالطائفيّة وبالشجار العائليّ.

كان والد مريم مسلماً، وقد غاب عنِ البيت منذ كانت في السادسة من عمرها، وربَّتها والدتها كمسيحيّة. في السودان، بموجب الشّريعة الإسلاميّة، يرث الأبناء دين الأبِ، وبالتالي تمّ تصنيف مريم رسميّاً على أنّها مسلمة، ممّا يعني أنّها كانت مرتدّة في عُرْفِ الشريعة الإسلاميّة لأنّها تخلّت عن الإسلام لتعتنقّ المسيحيّة.

وفي سنة 2011، قيل أنّها ارتَكَبَتْ "جريمةً" أخرى بزواجها من رجل مسيحيّ، وهو أمرٌ غير مشروعٍ لامرأة مسلمة، فحُكم عليها بالإعدام، كما أَعلنتِ المحكمةُ بطلانَ زواجها؛ وبالتالي جُلدت 100 جلدة لممارسة الجنس خارج إطار الزواج. لم ينفذ فيها حكم الإعدام على الفور لأنّها كانت حاملاً في ذلك الوقت، وتمّ إرسالها إلى السجن مع ابنها البالغ من العمر 20 شهراً؛ وقد أنجبتْ طفلها الثاني في السّجن، وتقول بعض الرّوايات إن ساقيها كانتا مقيدتين بالسلاسل حينها. 12

أتت مقاضاة مريم بتحريضٍ من أخيها وأختها غير الشقيقين لدوافع ليست واضحة تماماً، فقد ادّعى أخوها غير الشقيق، السّماني الهادي محمَّد عبد الله، أنَّ زوجها قد مارسَ عليها السحر لتتخلّى عنِ الإسلام من خلال منْحِها جرعةً سحريّة. وقال لقناة CNN: "أمامها خياران: إمّا أنَّ تعود إلى ديننا الإسلامي وإلى أحضان العائلة، فنحن عائلتها وهي منّا، أو ينفذ فيها الحكم وتُعدم إنَّ رفضت." 13 ووفقا للمحامين الذي كُلِّفوا بالدفاع عنها، كانت مريم تملك العديد من الشركات الصّغيرة النّاجحة، كصالونُ حلاقةٍ وأراضٍ زراعيّةٍ ومتجرٌ، وأضاف هؤلاء أنَّ أقاربها كانوا يطمعون في الاستيلاء عليها.

وبعد كثيرٍ من الضّغط من كثير من الدول - فزوجها قد حصل على الجنسيّة الأمريكيّة - نقضت محكمة الاستئناف أخيراً الحكمَ الصادرَ بحقها، وأُطْلِقَ سراحها؛ لكن بعد فترة وجيزة أُعيد اعتقالُها في مطار الخرطوم مع زوجها وأولادها، بينما كانوا يحاولون مغادرة البلاد بتهمة وجود مشاكل في وثائقِ سفرهم.

وقد قيل مرةً أخرى أنَّ اعتقالهم في المطار جاء بتحريضٍ مِنْ أقارب مريم المسلمين؛ فقد صرّح أخوها غير الشقيق لصحيفةٍ سودانيّةٍ أنّه كان ينبغي تسليمها إلى عائلتها لا لزوجها، وزَعمَ أنّها قد "اخْتُطِفَتْ" وتمّ تهريبها رغماً عنها بعد خروجها من السجن. وأضاف: "عائلتنا غير مقتنعةٍ بقرار المحكمة بإسقاط التُّهم الموجّهة ضدّها. لقد أخفق القانون في الحفاظ على حقوقنا، وأصبحتِ المسألةُ الآن مسألةَ شرفٍ. فالمسيحيّون لوّثوا شرفنا، ونحن نعرف كيف ننتقم لذلك." 14

بعد الإفراج عنها للمرة الثّانية، طلبت مريم اللجوء إلى السّفارة الأمريكيّة، ووصلت في نهاية المطاف إلى الولايات المتّحدة.

إنَّ الاتهاماتِ الموجهةَ إلى النّظام الذكوري موجودةٌ في الجانب الآخر أيضاً، أيْ بين غير المؤمنين؛ ففي الولايات المتّحدة تحديداً، كانت هنالك شكاوى منْ أنَّ الإلحاد شيءٌ خاصٌّ بالرّجال إلى حدّ كبير، وهو ادِّعاءٌ لا يخلو من بعض الحقيقة، لكن ليس بالقدر الذي يتصوّره النّاس، فهناك من يلقي باللوم على وسائل الإعلام لتركيزها وبشكل حصريّ على مجموعة للرِّجال يطلق عليها اسم "الملحدون الجدد." تشكّل النّساء نحو 40% من الأميركيّين ممَّن قالوا إنّهم بلا انتماءٍ دينيّ رسميّ، وهي نسبة كبيرة، 15 كما أنَّ هنالك نساء ناشطات، لا مجرَّد ملحدات سلبيّات، ففي مقال نشرته مجلة Bitch، كتبت "فيكتوريا بيكيمبس Victoria Bekiempis":

"لقد عملت نساء كثيرات كناشطات ملحدات، كمادلين مواري أوهير Madalyn Murray O’Hair مؤسِّسةُ منظّمة الملحدين الأمريكيّين، 16 والتي رفعت دعوى أمام المحكمة العليا، وضعت من خلالها حدّاً للصّلاة في المدارس العامة سنة 1963، والرقيب "كاثلين جونسون Kathleen Johnson" التي أسَّست منظّمة للملحدين في الجيش الأمريكي، وأيضاً "ديبي غودارد Debbie Goddard" التي أسّست منظّمة نشاطاتٍ إنسانيّةٍ للأمريكيّين من أصلٍ أفريقيّ.

وقد ألّفنَ الكتب، وترأسْنَ المنظّماتِ، ودافعنَ عن المواطنين المقموعين دينيّاً، لكنّ الصورة الشائعة للإلحاد في أمريكا تبقى محطَّ جدلٍ، حيث يُنظر إلى الطبقة المعاصرة، صاحبة التفكير الحرّ، والتي لا تخاف الله - والمعروفين أيضاً بالعلمانيّين أو المشكّكين أو غير المؤمنين - على أنَّ غالبيتهم من الشّباب من محبّي الاستعراض." 17

تعتبر "إرنستين روزErnestine Rose" المولودة في بولندا سنة 1810 إحدى أولى النّساء الملحدات المدافعات عن حقوق المرأة، والتي فازت في معركة قضائية لإنقاذ نفسها من زواج لم ترغب به؛ كان قد رتّب له والدها الحاخام اليهودي بينما كانت لا تزال في سنّ المراهقة، وواصلت نشاطها في بريطانيا والولايات المتّحدة في وقت لاحق. تقول "جين مكرايت Jen McCreight"، التي ذكرتْ عدداً كبيراً من الملحدات الناشطات حينها في مقال لمجلة Ms Magazine: "لا يمكن إنكار أنَّ عدد الرِّجال يفوق عدد النّساء معظم الوقت، سواءً من ناحية حضور المؤتمرات، أو على مستوى المتحدثين في المؤتمر، أو من قُرَّاءِ المدوّنات ومؤلفي الكتب الأكثر مبيعاً" لكنّها تضيف: "ومما يزيد هذه المشكلة امتناعُ وسائل الإعلام عن ذكر أسماء النّساء الملحدات البارزات حتّى في المنشورات التي تدافع عن حقوق المرأة، وتتساءل أين كلّ النّساء الملحدات." 18

ويرى البعض أنَّ النّهج العدوانيّ الذي تبناه "الملحدون الجدد" والقائل بوجوب محاربة الدّين بدلاً من التسامح معه يعطي صورة ذكوريّة قد لا تروق للنّساء؛ إلّا أنَّ "مكرايت" ترفض هذا الرأي حيث تشير إلى عدد من النّساء الملحدات اللاتي "كان صرير أسنانهن أعلى صوتاً حتى من ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز."

وبالطبع كان المفكرون الملحدون في التاريخ العربي - ممَّن لا زالوا يُذكَرون إلى يومنا هذا - من الرِّجال؛ إلّا أنَّ وجود النّساء في موجة الإلحاد الجديدة في الشّرق الأوسط أمرٌ يمكن ملاحظته ولو بنسبة قليلة. تقول مريم نمازي، وهي إيرانيّة المولد وعضو في مجلس المسلمين السّابقين في بريطانيا، أنَّ منظّمة المسلمين الأمريكيّين السّابقين أسّستها امرأة، وأنّ مثيلتَها الألمانيّة تترأسها امرأتان، وأنّ لمجموعتها البريطانيّة متحدثتان رسميّتان من النّساء، لدرجة أنّها قالت: "أنا شخصيّا أعتقد أنّها منظّمة للنّساء." وتضيف قائلةً:

"إذا نظرتَ الى الاحتجاجات في الشّرق الأوسط فستجد النّساء في طليعة الكثير منها، فالكثير منهنَّ ينتمين إلى المفكرين الأحرار حتى لو لم يطلقن على أنفسهم تسمية الملحدات.

أعتقد أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ النّساء غير ظاهرات في الحركة الإلحادية في الغرب؛ فلو ذهبتَ إلى اجتماعاتِ الملحدين فلن ترى إلّا الذّكور البيض. أنا أكره استخدام هذه المصطلحات لأنني أكره تقسيم النّاس بهذه الطريقة، ولكنّي أعتقد أنَّ القيادة الشعبيّة بحاجة إلى بعض الوقت لتظهر... لا ضير في أنْ تكون القيادة ذكوريّة ومن البيض، ولكنّ المشكلة في أنَّ النّاس الآخرين (أي النّساء) غير موجودين في هذه الاجتماعات.

نحن ننظّم مؤتمراً، والغالبيّة العظمى من المتحدثين هم من النّساء الملوّنات، أي من الشّرق الأِوسط وشمال أفريقيا ومن خلفيّات مهاجرة هنا في الغرب، هؤلاء النّساء يقمن بعمل مدهش ولكنكم لا تعرفون شيئاً عنهن... لم نكن نعرف شيئا عنهن لأنهن يعملن على المستوى الشعبي وغالباً ما يكون من الصعب جدا علينا أنَّ نراهن." 19

وتضيف نمازي أنّه من بين ستة وأربعين متحدثا رسمياً في المؤتمر، كان هنالك تسع وعشرون امرأة وسبعة عشر رجلاً. 20

أمّا "ريتشارد دوكينز" فيقول: 21"هنالك عدد كبير من الملحدين الذين عليهم إعلان إلحادهم، وذلك تأييداً منه لحملة سُمِّيَتْ The OUT Campaign والتي أطلقت سنة 2007 لحث الملحدين، خاصة في الولايات المتّحدة، على إعلان إلحادهم من خلال ارتداء شارة حمراء على شكل حرف "A". لم يكنِ استخدامُ الملحدين لمصطلح "الإعلان أو الظهور" لوصف إعلان إلحادهم صراحةً من قبيل المصادفة، فالمثلية الجنسية والإلحاد هما من الأشياء التي يفضّل النّاس إبقاءها طيّ الكتمان، ويُعتبران في المجتمع العربي من المحرّمات الاجتماعية وقد يرقيان إلى مخالفة قانونيّة.

يرتبط الإلحاد والمثلية الجنسية بطرق أخرى أيضاً، ففي الولايات المتّحدة أظهرتْ إحصاءات جمعها المسح الاجتماعي العام 22 أنَّ احتمالية إعلان الأميركيّين مثليي الجنس أنهم ملحدون أو لاأدريون هي ثلاثة أضعاف نظيرتها بين الآخرينً، 23 وأن 62٪ من الأشخاص المثليين والمتحولين جنسياً في الولايات المتّحدة يرون بأن الدّين ليس جزءاً هاماً من حياتهم، 24 ومردّ ذلك أنَّ النّاسَ الذين تجرّم التعاليمُ الدّينيّةُ حياتَهم الجنسيّة من المرجّح أنَّ يبدأوا بطرح أسئلة حول الدّين ممّا يقودهم بدوره نحو الإلحاد. 25

إنَّ الممارسات الجنسيّة المثليّة غير قانونيّة في معظم الدول العربيّة، وعندما لا توجد قوانين محدّدة، يكون هنالك قوانين أخرى يمكن تطبيقها كالقانون المصريّ ضدّ "الفجور"، وكون الشخص مثليّ الجنس ليس جريمة بحد ذاته - إلّا في حال تضمّن الأمر ممارسة الجنس - إلّا أنَّ بعض الأشخاص اعتُقِلوا لسلوكهم المخنّث وتمّت مداهمة حفلاتِ أقامها المثليون. يُعاقب من يمارس اللواط في البلدان العربيّة بالسجن عادةً، لكن العقوبة في موريتانيا والمملكة العربيّة السعودية والسودان واليمن هي الإعدام. على العموم، ورغم القمع في بعض الأحيان وميل القانون إلى كونه تعسفياً واعتباطياً، فإنّ السلطات لا تسعى لملاحقة مثليّي الجنس وتقديمهم للمحاكمة بشكلٍ ممنهجٍ؛ وذلك لأنّها ترى أن الشّذوذ الجنسيّ غير موجود بدرجة كبيرة في الدول العربيّة، ويُنظَر إليه على أنّه "مَرض" غربيّ أساساً؛ لكن في عراق ما بعد صدام حسين قامت جماعات الاقتصاص في كثير من الأحيان بمضايقة وحتى قتل المتّهمين بالمثلية أو قلّة الصّفات "الذّكورية." 26

إنَّ التعاليم الإسلاميّة التقليديّة تجرّم المثليّة الجنسيّة، كما تتبنّى الكنائسُ المسيحيّةُ في المنطقة عموماً موقفاً مماثلاً. وغالباً ما يُنظر إلى هذا الأمر على أنّه "خَيار" وبالتالي خيار خاطئ، إلّا أنَّ البعض يعتبرونه مرضاً عقلياً، ربما لإظهار بعض التعاطف. ويبدو أنّه لم يُفرَض عقاب على المثلية الجنسيّة أثناء حياة النبيّ محمَّد، لذلك فإنّ اجتهادات الشريعة عادة ما تعاملها معاملة الزَّنا.

اعتمد استنكار الإسلام للمثلية الجنسيّة بشكلٍ كبيرٍ على أحاديث الرسول وذلك أنَّ القرآن لم يأت على ذِكر هذا الموضوع في مواضع كثيرة، وأمّا من يستشهد بالقرآن فيركّز بشكلٍ أساسي على قصة النبيّ لوط الذي ذُكر في الإنجيل، حيث ورَدَ في سفر التكوين أنَّ الله لجأ إلى معاقبةِ قومي لوط وعمورة بأن أمطرهم بحجارة من السماء، وهي نفس القصّة التي ورَدَتْ في القرآن تقريباً.

وقد دأب المسيحيّون والمسلمون على حدّ سواء على تفسير القصّة كنوع من العقاب الإلهيّ للمثلية الجنسيّة، غير أنَّ القراءة المتأنيّة لهذه القصّة تبيّن أنّها أكثر تعقيداً من ذلك، فقد شمل العقاب ذنوباً عدة، كما أنّه لم يكن هنالك توافق بهذا الشأن؛ حيث يشكك المسيحيون من خارج منطقة الشّرق الأوسط وبشكل متزايد بهذه التّفسيرات التقليديّة، على عكس المسلمين الذين نادراً ما يشكّكون بها رغم التّشابه الكبير بين القصص التي يرويها كلّ من القرآن والإنجيل بهذا الخصوص. يقول "سكوت سراج الحق كوجل Scott Siraj al-Haqq Kugle" في كتاب يدرس الأدلّة الواردة في الإنجيل إنَّ الإسلام لم يحرّم المثلية الجنسيّة تحريماً قطعيّاً بل إنّه يدعو إلى المزيد من قبول التنوع في الدّين، وهذه بلا شك وجهة نظر إصلاحيّة تقابلها دعوة بعض مناصِرات المرأة المسلمات إلى إعادة قراءة القرآن بطريقةٍ أقلَّ ذكوريّة. 27

في الدول الغربيّة، حيث لا تتّسمُ الكنائس كلّها بالعدوانيّة، فإنّ المثليّين والمثليّات وثنائيي الجنس والمتحولين جنسياً يَصِلُون في بعض الأحيان إلى تسوية بين حياتهم الجنسيّة والدّين ولكن التعليم الدّينيّ الحاليّ في الدّول العربيّة يجعل ذلك أكثر صعوبة. يقول حسن، وهو بحرينيّ مثليّ الجنس: "هنالك نصوصٌ دّينيّةٌ تدين مثليّي الجنس ولكنّها تدفعك للشعور بأنّ ما هو مكتوب فيها ربما لا يكون من عند الله؛ فلماذا خلق الله بعض النّاس مثليّين جنسيّاً، إذا كان ذلك محرّماً؟ هل يجب أنَّ أعيش حياة عازبة ابتغاءً لمرضاته ثم أنال الجنة؟" وعندما أعلن حَسَنٌ إلحاده أخيراً؛ حصل ما توقعه، وهو أنَّ ميوله الجنسيّة تم تقبُّلها بشكل أكبر من قبل الأفراد الأقل تديناً في عائلته، فيقول في ذلك: "لأنَّ والدِي وأخي وأختي ليسوا متدينين فقد تقبلوني، لكنّي لم أشأ أنَّ أخبر أمي لأنّها محافظة جداً ولا أعتقد أنّها ستتقبل الأمر برحابة صدر."

إنَّ الذين يصارعون بسبب ميولهم الجنسيّة أو يتهيؤون للإعلان عنها غالباً ما يكونون بحاجة إلى الدعم والمساندة، وهو نوع من الدعم يُفترَضُ أنْ يوفره الدّين في ظروف مختلفة. وهذا يشير إلى واحد من الاختلافات الرئيسية بين النّساء من جهة والمثليين جنسياً، وثنائيّي الجنس، والمتحولين جنسياً من جهة أخرى في علاقتهم مع الدّين، ففي حين أنَّ النّساء قد يجدنَ بعض الارتياح في تركهن للدين - وإنْ أدى ذلك إلى تعرّضهن للقمع في الوقت ذاته - لا يجد المثليّون العرب هذه الراحة، فبدلاً من التعاطف معهم وتفهمهم يتم مقابلتهم بالإدانة.

أمّا في حالة حسن، فهو لم ينقلب على الدّين بكافة أشكاله، بل دفعه ذلك - أي ميوله الجنسيّة - إلى استكشاف إمكانيات "روحانية" أخرى، فيقول: "عندما تمر بأوقات عصيبة، تلجأ للبحث عن إجابات روحيّة أو أيّ شيء يعطيك الأمل." لقد كان يدرس في الهند عندما أعلن عن ميوله الجنسيّة، ويقول أنّه وجد بعض الرّاحة في بعض الأفكار البوذية، أفكار ليست من قبيل التقمص بل أفكار مثل عدم الثّبات، والمحبة واللطف والرّحمة."

إنَّ إحدى الطرق التي يتّبعها مناصرو النّساء ومثليّو الجنس من الرِّجال للتصالح مع الدّين هي من خلال ما يطلِق عليه علماءُ الاجتماع "مرونة الإيمان" التي هي في جوهرها عبارة عن إعادة تشكيل المفاهيم التقليديّة عن الله والإيمان بما يناسب احتياجاتهم. "طارق سيد رجب دي مونتفورت"، وهو فنان كويتي المولد ومثلي جنسياً، يصف نفسه بالمتديّن، ولكن بطريقة غير تقليديّة، وهو ما يبدو واضحاً للوهلة الأولى حيث وشَمَ حنجرته بكلمة "الحقيقة" وكتب آيات من القرآن على أجزاء أخرى من جسده.

إنَّ أول اتصال له مع الإسلام لم يكن من خلال المسجد كما هو متوقع، ولكن من خلال متحف عائلته، "متحف طارق رجب"، الذي أسّسه جدّه، ويحتوي على أكثر من ثلاثين ألفَ تُحفةٍ من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.

يقول طارق: "لم أشعر يوماً بالحاجة للذهاب إلى المسجد فعندنا أغطية للكعبة في المتحف. 28 لدينا ثلاثة منها من القرن التاسع عشر حين كانت لا تزال تُصنع في القاهرة بكثير من الزخرفة، وأوجه هذه الأغطية مطرزة بالذهب والفضة بشكل كامل، إنّها مدهشة بالفعل، ولدينا أيضاً واحدة من أكبر المجموعات من كتب الإنجيل المكتوبة بخط اليد على ورق الرق في الشّرق الأوسط، ونُسَخٌ من القرآن مكتوبةً بخطّ اليد من القرن التاسع عشر؛ ولذلك كان الله حاضراً بقوة، ولكنّ حضوره ذاك كان مجرَّداً وخفيّاً إلى حد كبير."

كان جدُّ طارق ومقتنياته الفنيّة هم من ألهموه الفكرة الأولى عن ماهيّة الدّين، وهي أنه جاء من تقديس الجمال. 29 يقول طارق: "لقد وفّر لي ذلك الأساسَ كلَّهُ لأفهَمَ الفنّ الإسلامي. لقد رأيت كيف تتجلى كلمات الرسول: "إنّ الله جميل يحبُّ الجمال." كانت تجربةُ طارق الآخذة بالنمو غير عادية؛ وربما فريدة من نوعها، وأعطته وجهة نظر أكثر إيجابية بكثير من تلك التي يحصل عليها النّاس من خلال الاستماع إلى الخطب في المساجد، كما أنّها جعلته ينتقد الإسلام التقليدي السائد.

يضيف طارق: "أنا لا أقصد الإساءة، ولكنّ رأيي هو نتيجة محزنة لما كان من المفترض أنْ يكون عليه الإسلام ... فالنبيّ سيصاب بالذهول لو رأى ما تحول الإسلام إليه اليوم. يرى طارق أنَّ له الحق في التعبير عن هذه الآراء لأنه من سلالة النبيّ على حد زعمه.

يضيف طارق قائلاً: "أشعر أنَّ هنالك صنفين متناقضين من النّاس تجاه الدّين اليوم، الصنف الأول يتقبل الدّين تقبلاً كلياً، أي يؤمنون بمبدأ "عليك القيام بذلك،" وهذه قمة اليقين والعقيدة، ولا أصِفُ ذلك بالسلبية ولا الإيجابية." أمّا النوع الآخر فيرفضون الدّين رفضاً كلياً ويتحولون إلى الإلحاد؛ ولكن هنالك آخرين كان لهم تجربة مختلفة مع الدّين إلى درجة أنَّ بعضهم تحول إلى عبادة الشيطان، إلّا أنَّ طارق يقول أنَّ هذه ليست "عبادة الشيطان الحقيقية" لكنها "النسخة الهوليوودية."

يزعم طارق أنَّ هنالك اهتماماً متزايداً، لكنه خفيّ، في الكويت بالبوذية والتي، باعتبارها ديناً غير توحيدي، تلقى قبولاً أقلَّ من الإسلام أو اليهودية أو المسيحيّة. يقول طارق:

" وقعتُ مرةً في ورطة في مدرستي لأنّي تحدثت عن الهندوسية والبوذية. لا أعرف ما إذا كان يمكنني القول أنَّ هذا من المحرمات؛ لكنه كذلك بالنسبة لبعض النّاس؛ إلّا أنني أرى الأمور تتغيّر وخاصّة بعد وجود شبكة الانترنت؛ ففي الكويت اليومَ هنالك "مراكز الاستشفاء" البوذيّة، كما أنَّ الأشخاص الذين يديرون هذه المراكز يسافرون حول العالم لحضور الأحداث البوذية لكنّهم لا يعلنون عن مراكزهم بأنّها بوذيّة بل يعلنون أنّها مراكز استشفاء أو منتجعات أو حتى مراكز لدروس يوغا. وكل ذلك حصل منذ فترة قريبة، وكل الأشياء تحدث الآن."

حتّى اللحظة لم يلفت هذا النشاط البوذيّ السّريّ انتباه السّلطات أو الشّرطة الدّينيّة، حيث يقول طارق: “أعتقد أنَّ هؤلاء لا يشعرون بالتهديد لأنَّ البوذية لا يتم ذكرها بالاسم، فالأمر برمّته يتمّ تصويره على أنّه متعلق بالصّحّة فحسب. إنَّ المطوّعين، أو الرِّجال الضخام الملتحين، وبحكم نمط الحياة الذي يتبعونه ربما، لم يسمعوا عن المنتجعات (أو الينابيع المعدنية) أو أشياء من هذا القبيل."

ويضيف طارق أنَّ كونه مثليَّ الجنسِ لم يدفعه أبداً للشك في الدّين أو "بذلك الإحساس الإلهي" رغم أنّه أقرّ بأنّ الآخرين يمرّون بصدمة تجعل هذا الحس الإلهيّ "يضمحلُّ أو يتلاشى"، ويرى أنه لن تظهر هذه المشكلة إذا ما أخذ المسلمون بنصيحة الرسول بأن "يفكروا بأنفسهم". يضيف طارق قائلاً:

"أنَّ نقرّر شؤوننا بأنفسنا كما طلب النبيّ منّا ... ولو أنَّ النّاس فعلوا ذلك، وقرأوا القرآن، فسيجدون من خلال الإسلام أشياءَ جميلة لا تتّفق مع فكرة أنَّ المثليّة خطيئةٌ، أو أنّ ارتداء الحجاب واجب، فالأمر برُمّته متعلّقٌ بالتفسير، ولو أننا نأتمر بأمر النبيّ، أي أنَّ نفسر القرآن على أنّه فيض من الرحمة، فسوف يأخذنا ذلك إلى شكل من الإسلام أكثرَ نقاوة، شكل لا أرى فيه أنَّ المثليّة الجنسيّة ذنْبٌ يعاقب عليه.

وبما أنَّ النبيّ محمَّد هو المسلم المثالي وقدوة الجميع، فلا توجد أحاديث تُدين أيَّ رجل مثليّ الجنس؛ وهناك إشارات إلى أنّه سمح للرجال المثليّين أنْ يروا زوجاته وهن مكشوفات الوجه، كما أنَّ القرآن يقول أنَّ باستطاعة الرِّجال الذين ليس لديهم رغبة بالنساء أنَّ يروهن (أي زوجات الرسول)." 30

في عام 2013، أعلن سعيد كياني أنّه مثليّ الجنس وملحدٌ في تدوينة نشرها على الإنترنت. وهذا مقتطف ممّا كتبه:

"بدأ الأمر عندي حين ولِدتُ، فأنا لست عربيّ المولد بشكل خالص، حيث أنَّ والدي من الإمارات العربيّة المتّحدة ووالدتي من ولاية ألاباما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وصنّفني البعض بأنّي "مختلف". لم أستطع أنْ أتكيّف مع الأمر، لقد غيّر كوني مثليّ الجنس ديناميّتي منذ البداية. لم أكن أميركياً خالصاً، أو عربيّاً بحقّ، ولا حتى "رجلا حقيقياً."

وَقعَ الحدث الأبرز في حياتي بينما كنت أعيش مع عائلتي في ولاية فلوريدا، عندما كنت في الصفّ السّادس كان يعتريني الارتباك والحرج الشديدان وأنا أبذل قصارى جهدي لأكون مسلماً وابناً صالحاً؛ ثم جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول.

ومنذ ذلك الحين لم تعد الحياة ذاتها ما كانت عليه في الولايات المتّحدة، ولأن والدتي ترتدي الحجاب فقلمّا يمرّ يوم دون أنَّ يحدق النّاس بها، كانت نظراتهم تقول "أنت خائنة"، لقد فقدتُ أصدقائي، وسخر النّاس من معتقداتي أمامي، وراح النّاس يتعاملون مع أُسرتي بجديّة أقلّ. بدأ شعور "بالغربة" يطفو على السطح نابعاً من داخلي، إلّا أنّني دافعت عن الإسلام بقدر ما استطعت كوني كنت فتىً مسلماً صالحاً.

وهذا أمرٌ مهم لأنّها المرة الأولى التي أدركتُ فيها أنَّ الدّين يمكن أنَّ يكون له تفسير مختلف. لسوء الحظ كان والداي لا يساعداني كثيراً في توضيح الأمور لي، فكل ما كانا يقولانه لي هو أننا على حق وهم على باطل.

وبعد ذلك بعام انتقلنا إلى الإمارات العربيّة المتّحدة بعد أنَّ أَنهى والدي دراسة الدكتوراه في علم النفس... لم يتساءل الكثير من النّاس عن سبب عدم مصادقتي لأية فتاة وقد كنت أبلي بلاءً حسناً في المدرسة، وبالكاد أعيشُ حياة اجتماعية. ظلّ الأمر هكذا حتى تعرفت على أول صديق مثلي الجنس، وحالما عرف النّاس بصداقتنا بدأت الشائعات تنتشر.

قال لي اثنان من الفتيان إنني بحاجة إلى الله، لكن المثير للسّخرية في ذلك هو أنّني كنت في هذه الفترة من حياتي أكثر تديناً من أية فترة أخرى. لقد دفعني الشّعور العميق بالذنب والألم إلى محاولة الرجوع إلى الله، لكن شعوراً بدأ ينتابني حينها بأنّ الله تخلى عني، ورحت أسأل الله لماذا يحدث هذا لي؟ أنا لا أريد أنَّ أشعر بهذا الشعور أكثر من ذلك. ساعدني لأكون طاهراً!

كنت أحاول أنَّ أعرف، من المنظور الإسلامي، ما الحكمةُ من خلق الله لي مِثليّا؟ لم أقتنع بفكرة أنّه يختبرني فحسب، فلماذا يُلحقُ الخالقُ مثل هذا الألم العاطفيّ بخلقه؟ ولماذا خلق الله المثلية الجنسيّة أيضاً وحرمها في الوقت ذاته؟

رغم أنّي بقيتُ مؤمناً رغم هذا كله، لكنّي كنت محطماً كلياً، فقد كنت أشعر بأنّي وحيد ومشوّش الذّهن ويتملّكني القلق حتى أنّي فكرت في الانتحار، خصوصاً بعد أنَّ سمعت ولعدة مرات كلاماً مهيناً من قبل ضدّ مثليّي الجنس.

وبعد أن قرأتُ عن الرِّدَّة في الإسلام، وكأنّي شعرت بضوء قد توهّج داخلي... هل يجب أنَّ يُقتل المرتدون؟ هل حقاً قال الله هذا؟ لا، لقد بدا الأمر أكثر من تخطيط البشر لرحلتهم إلى الجنة. إنَّ تكتيكات مثل هذه كان لها غايات بشرية في العصور الوسطى. لماذا يأمر الله القدير والعليم بكلّ شيءٍ بقتل إنسان ضعيف مثير الشفقة لمجرد أنّه غيّر رأيه بخصوص وجوده؟

لقد تملكني الذهول والصّدمة عندما طرأتْ على مخيلتي هذه الأفكار، وشعرتُ وكأن وزناً كبيراً قد أُزيل عن كاهلي عندما تمكنت أخيراً من استجماع ما يكفي من الشجاعة لأقول لنفسي: "أنا لا أؤمن بالإسلام."

بعد مرور بضعة أشهر قال كياني واصفاً ردود الفعل على منشوره في مدوّنته أنَّ أغلب النّاس يخافون الخوض في الحديث بهذه المواضيع علناًـ إلّا أنَّ بعض الأصدقاء والمعارف العرب عرضوا تقديم الدعم وبدا بعضهم مهتماً بمعرفة المزيد كونهم لم يلتقوا قطّ بملحد أو مثليّ الجنس، في حين كان آخرون أكثر عدوانيّة وتعالياً، قائلين أنَّ كيّاني كان بعيدا كلّ البعد عن الواقع أو متأثراً بالغرب جداً، أو أنَّ لديه مشاكل عقلية أو نوع من المخططات ضدّ الإسلام؛ حتى أنَّ أحدهم قال أنّه كان ممسوساً (أو مسحوراً)؛ ويضيف أنَّ معظم هذه الآراء العدوانيّة جاءت من جيل الشباب في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة.

كان كيّاني لا يزال غير متأكد ما إذا كان والداه يعرفان بشأن منشوره الذي أعلن فيه عن إلحاده وأنه مثليّ الجنس، لكنّه لاحظ تغيّراً كبيراً في سلوكهم تجاهه ممّا دفعه للشكّ بأنهم قرأوا المنشور، فيقول في ذلك: "لقد أعطوني المزيد من المحاضرات عن الزّواج والدّين؛ حتّى أنهم ضغطوا عليّ لكي أراجع طبيبا نفسياً بانتظام، لكن لحسن الحظ وقف المعالج النفسي إلى صفّي وكان سنداً رائعاً لي."

يرى كيّاني أنَّ الانتماء إلى أقليّة جنسيّة كان أحد العوامل التي أدّت إلى إلحاده، ولكن هنالك اعتبارات أخرى أيضاً حيث يقول: "لم تتوافق الكثير من المسائل في الإسلام، من حيث المنطق، مع ما أحمله من قيم كالإنصاف؛ فكثير من النّاس يتعرضون يومياً لأذى لا مبرر له نتيجة لبعض أوجه الدّين. لقد واجهتُ مشكلة كبيرة مع هذا ولم أكن أريد أي جزء منها، وكان من الأسهل لي أنْ أصل إلى هذه النتيجة كوني مثلياً." رغم أنَّ كيّالي لم يبد دهشة من الربط الإحصائي بين المثليّة الجنسيّة والإلحاد، إلّا أنّه يرى أنَّ هنالك اختلافاً كبيراً بين الاثنين حيث يقول:

"إنَّ كون المرء مثليّ الجنس يجعل من الصعب جداً تلبية ما يتوقعه منه المجتمع، لكن هذا لا ينطبق على الإلحاد، فيمكن للمرء أنَّ يتعايش مع مجتمع متدين وأنْ يكون ملحداً بنفس الوقت، لكن الشّذوذ الجنسيّ ذو طبيعة بيولوجية، ولهذا السبب فإنه في نهاية المطاف سوف يظهر جلياً للناس الآخرين سواءً أحبوا أم كرهوه، وهذا لا ينطبق على الإلحاد لأنه من الأسهل إخفاء عدم الإيمان بالله أكثر من إخفاء العواطف تجاه الآخرين.

"وغني عن القول أنَّ المثليين والمتحولين جنسياً وثنائيي الجنس على مرّ التاريخ لم يكونوا في موضع ترحيب من قبل الأديان الإبراهيمية، ولكن هنالك أيضاً من هم مثليون وفي نفس الوقت متدينون. قد يكون هذا هو حال جزء من المثليين وثنائيي الجنس والمتحولين جنسياً، لكن بالتأكيد ليس جميعهم، فهم ككل النّاس متنوعون ولديهم نفس التعقيدات والاحتياجات والمخاوف والأخطاء لأي شخص آخر.

وفي المجتمعات المتديّنة يجب على هذه الفئة من الأشخاص إمّا الطاعة أو العصيان أحياناً، لكي يستمروا في البقاء، إلّا أنَّ غالبيتهم ينتهي بهم المطاف في المنطقة الرمادية، فيعيشون حياة مزدوجة. على سبيل المثال، لديّ صديق إماراتيّ ملحد ومثليّ سيتزوج قريبا من امرأة على الطريقة الإسلاميّة، وزواجه هذا ليس نابعاً من الإسلام بل هو ما تمليه عليه ثقافة المجتمع وعلى سائر الرِّجال الإماراتيين لكي يتجنّبوا وصمة العار الاجتماعية التي ستلحق به وبعائلته، كما أنّه سيمضي في خطته للزواج لكيلا تتضرر فرَصه في الحصول على وظيفة حكومية. وكذلك ينطبق هذا عليّ ولا تزال العواقب الاجتماعية على عائلتي تخيفني." 31

الفصل السادس


الإشعار القانوني

تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com

ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا:

https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode