Arabs Without God: Chapter 7

الفصل السادس: امتيازات الدِّين
الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً
الفصل الثامن: الحقّ في الإساءة
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
المصادر والملاحظات
مقدمة
الفصل الأول: إنكار الله وهدمُ المجتمع
الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي
الفصل الثالث: كتابُ الله
الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم
الفصل الخامس: الإلحاد والجنس

الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً

أثار قرار المملكة العربيّة السّعوديّة استئجار ورشةِ عمّالٍ صينيّين لبناءِ سكّةٍ حديديّةٍ في مدينة مكّة جدلاً واسعاً لأنّ مكّة مدينةٌ مقدّسة يُحرَّمُ دخولها على غيرِ المسلمين، غير أنّ ذلكَ لم يثنِ السُّلطات السّعوديّة ولا الشركة الصينيّة - وهي فرعٌ من جيشِ التحريرِ الشعبيّ - التي كان حريصاً على الفوزِ بعقدِ بناءِ سكّةِ الحديدِ تلك كونه كان مربحاً. قام السّعوديّون بحلّ المشكلة بكل بساطة عن طريق تقديمِ هديةٍ صغيرةٍ لكلِ عاملٍ من عمالِ الشركة، وهي عبارة عن كتاب مطبوع باللغة الصينية يتحدث عن الإسلام. عند تلك اللحظة حصل أمرٌ لا يمكن وصفه سوى أنّه معجزة، ففي غضون 24 ساعة قَرَّرَ أكثرُ من 600 عاملٍ صينيّ اعتناق الإسلام - بكامل إرادتهم على ما يبدو - وتمّ ذلك باحتفالٍ كبيرٍ حَضرهُ الدّكتور عبدالعزيز الخضيريّ وكيل إمارة منطقة مكّة المكرّمة. 1

يُعتَبَرُ اعتناق الإسلامِ أمراً سهلاً للغاية - رغم أنّ تركهُ يعتبرُ أكثر صعوبة - حيث أنّ كلَّ ما يحتاجه الفرد للدخول في الإسلام هو نطق شهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولكي تكونَ الشهادةُ مقبولةً يجب النطق بها بكل إخلاصُ، وربما لم يكن هذا حال العمال الصينيين الستمائة.

ترحبُ أغلبُ الدّيانات بالمنتسبين الجدد، ويتم حثّ المسلمينَ على المشاركة في الدّعوة إلى الإسلام، فالعديد من آيات القرآن تشجع على ذلك: "أدع إلى سبيلِ ربَكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة" (سورة النحل الآية 125)، "ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير" (سورة آل عمران الآية 103).

من خلال تنفيذ هذه الآيات بشكلٍ عمليّ أصبحتِ المملكةُ العربيّة السّعوديّة واحدةً من أكبر الدّول المصدّرة للدّينِ منذ ثمانينيات القرنِ العشرين، ويعزى ذلك إلى تخوّف المملكة من انتشار الإسلام الشّيعيّ إبّان الثّورةِ الإيرانيّةِ والغزوِ السوفييتيّ لأفغانستان والذي قاد، بالإضافةِ إلى أشياء أخرى، إلى إنشاءِ عددٍ كبيرٍ من المدارسِ الدّينيّة المُتأثّرة بالسّعوديّة في باكستان؛ كما أنّ المؤسّسات والأفراد السعوديّين على حدٍ سواء نشروا كميّاتٍ كبيرة ٍ من الأدبِ الإسلاميّ في العديدِ من المناطقِ حول العالم إما بكلفة قليلة أو بالمجّان. كان الهدفُ من بعض هذه الجهود الدَّعويّة جذبُ المُسلمينَ الآخرين نحو الإسلامِ الوهابيّ، وقد لاقتْ هذه الجهود نجاحاً في دول كثيرة. إنّ المملكةُ العربيّة السّعوديّة هي موطنُ النبي ومسقط رأسه، ولذا فإنَّ الأفكارَ والممارساتِ الدّينيّة السّعوديّة "الوهابيّة" تُعتبرُ الأكثرَ "صحّة وموثوقيّة". كان الهدفُ من بعضِ المنشوراتِ الأخرى دخول أشخاصٍ جددٍ في الإسلام من خلال كتب مثل "دليلُ مختصرُ موَضَّح لِفهمِ الإسلام" الذي يمكن قراءته على الأنترنت كما يمكن أيضاً إعادة طباعته مجاناً من قبلِ أي شخص طالما لم يُغير أيّ شيء في محتواه، 2 كما أصبحت نسخ القرآن المترجمة إلى الإنكليزية التي تمّت طباعتها بإشرافِ جمعيّةِ "اقرأ" الخيريّة ومقرّها في مدينة جدّة متوفرة في الولاياتِ المتّحدة الأمريكيّة مجّاناً.

غير أنّ الدعوة في العديدِ من الدّول العربيّة تُعتبر طريقاً يخدم هدفاً واحداً، ففي حين تُشَجَعُ على الدّعوةِ إلى الإسلام، تُعتَبَرُ الدعوة التي يقوم بها غير المسلمين عملاً تحريضيّاَ ومحرّماً من قِبَلِ القانون أو السّياسة الحكوميّة، ففي الجزائر على سبيل المثال، يواجه أيّ شخص "يحرّضُ أو يجبرُ أو يستخدم وسائل إغرائيّة في سبيلِ تحويلِ مسلمٍ إلى ديانةٍ أخرى" غرامةً محتملةً تقدرُ بمليون دينارٍ جزائري (أو ما يعادل 12900 دولار أمريكيّ) وسجنٍ لمدة خمس سنوات. كما يمنع القانون صناعةَ أو تخزينَ أو توزيعَ موادّ مطبوعةٍ أو مسموعةٍ أو مرئيةٍ بغرضِ "زعزعة إيمانِ" المسلمين؛ أمّا في الكويت، لا يمنع القانونُ الكويتيّ الدّعوة لأي ديانةٍ غيرَ الاسلامِ فحسب بل إنه يُحرِّمُ أيضاً التعليمَ الدينيّ المنظّم لديانات غيرَ الدّيانة الإسلاميّة. كان من نتائج ذلكَ القرار منعُ المدارس البريطانيّة في الكويت من تعليم الدّين المقارَنْ والذي يُعتبر أحد الموادّ الدّراسيّة المطلوبة في المنهاج الدّراسيّ البريطانيّ، وفي قَطَر يُعاقَبُ من يدعو إلى ديانة غير الإسلام بالسّجن لفترةٍ تصلُ إلى عشر سنوات كما أنّ عقوبةَ حيازةِ وسائل دعويّة غيرَ إسلامية تصل للسّجن لسنتين، فضلاً إلى دفعِ غرامةٍ تقدر بـِ 10000 ريال قطري (2740 دولار أمريكي) كما يتمّ ترحيل الأجنبيّ الذي يُشتبَه بقيامه بنشاط تبشيري.

تُعتبر هذه الإجراءات نوعاً من سياساتِ الحمايةِ الاقتصاديّة التّقليديّة القديمة والتي فيها تقوم الحكومات بحماية الصّناعات غير المربحة من المنافسة من خلال دعمها ماليّاً أو من خلال فرض قيود على المستوردات. إنّ فكرة أنّ الدّين بحاجة للحماية بهذه الطريقة لن يعزّز عقيدة أتباع تلك الدّيانة، ولن يزيد من محاسن ومزايا هذا الدّين، وبلا شك ليس من صميم عمل الحكومة الجزائريّة، بأيّ شكل من الأشكال، منع "زعزعة إيمان" المواطنين الجزائريّين كما يقول القانون الجزائريّ.

سوف يدافعُ البعض عن هذه القوانين بحجّة أنّ الإسلام يجب معاملته معاملةً خاصّة لأنّه الدّين الصّحيح الوحيد. تحاولُ الحكوماتُ العربيّة على الطّرف المقابل تبرير هذه الإجراءات في سياقِ الاستثناءات الثقافيّةِ، وحتى في سياق المخاوف الأمنيّة، أي أنّ هذه الحكومات تخشى أنْ يؤدّي التبادُلَ الحرَّ للأفكارِ حول الأديان إلى الفتنة، لكن في حال وقعت هذه الفتنة، فإنَّ الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتقِ هذه الحكوماتِ العربيّة لأنّها حاولت ولسنوات عديدة المحافظةَ على التّناسقِ الاجتماعيّ عن طريقِ الإكراهِ بَدَلَ القبولِ الطوعيّ، كما أنَّها لم تسمح للعامّة بمناقشة الاختلافات الدّينيّة بشكلٍ منفتحٍ ومتحررٍ. إنّ اعتبار وجود معارضين محتملين هو سببٌ لقمع المعارضة الدّينيّة يعطي هؤلاء الحجة ليقولو ما يشاؤون.

إنّ ممارسات وسياسات أغلب الحكومات العربيّة تتعارض بشكلٍ جوهريّ مع المواثيقِ الدّوليّة التي وضعتها الأمم المتّحدة بخصوص حريّة المعتقد، فالمادّة الثامنة عشر من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان تقول أنّ لكلِّ إنسان "الحقّ في حريّة الفكرِ والضمير والدين" وتَعْتَبِرُ الأمم المتّحدة هذا الحقّ مطلقاً وغيرَ مشروط "ولا يمكن تعديله بأيّ شكل من الأشكال من قِبَلِ أيّ دولة." ولا تسمح هذه المادّة بأيّ قيدٍ على حريّة الفكرِ والضمير أو على حريّة تبنّي عقيدةِ أو دين أو التخلّي عنهما مهما كان نوع هذا القيد." 3

يمكن تأويل المادّة 18 على أنَّها تحتوي على صِيَغٍ متعددةٍ من عدم الإيمان إلى جانب الأيمان، بل إنّ ذلك هو ما صرّحت به لجنةِ الأممِ المتّحدة لحقوقِ الأنسان سنة 1933 عندما قالت: "تحمي المادّة 18 المعتقداتِ التوحيديّةِ واللاتوحيديّة والإلحادية والحقَّ في عدمِ الاعتقاد بأيّ دينٍ أو عقيدة."

كما تُبيِّن المادّة 18 بوضوح أنّ للنّاس الحريّةَ في تغيير ديانتهم أو معتقدهم، وهي نقطة يوليها المسلمون الراغبون بالرِّدَّةِ عن الإسلام اهتماماً خاصّاً، فمن خلالِ تخليهم عنِ للإسلام، يعرِّض هؤلاء الأشخاص أنفسهم لاتّهاماتٍ محتملةٍ بالرِّدَّة، وهي "جريمةٌ" تستحقّ أنْ يُعاقَب مرتكبُها بالموت في نظر الكثير من المسلمين وبعض الحكومات العربيّة.

تمّ تضمين نصّ حريّة تغيير الدّين في المادّة 18 بطلب من تشارلز مالك، وهو مسيحيٌ لبنانيّ كان عضواً في اللجنةِ الدّوليّة التي وضعت مسوّدة الإعلان إبّان الحربِ العالميّة الثانية. رغم أنّ "حريّة المعتقد" توحي ضمناً بحريّة تغيير المعتقد، إلّا أنّ إصرار تشارلز مالك على ذِكر ذلك صراحةً في المادّة 18 ناتجٌ عن تجاربهِ السابقةِ في لبنان وهو بلدٌ عُرف عنه حينئذ التّعايش المتآلف نسبيّاً بين مجموعاته الدّينيّة والعرقيّة المتعدّدة، وهو ما حوّله إلى ملاذ للهاربين من الاضطهاد الدينيّ، 4 غير أنّ عدّة دول عربيّة عارضت مُصطلح "تغيير الدّين" لأنّ قوانين الشّريعة تُعارِضُ الرِّدَّة عن الدّين وبسبب توجّسها من نشاطِ البعثاتِ التبشيريّةِ المسيحيّة، وقد أتى الاعتراض الأشدّ من المملكة العربيّة السّعوديّة التي أبدتْ، بشكل عامّ، اعتراضاً على ما اعتبرته تأثيراً ثقافيّاً غربيّاً في مسوّدة القرار، وعلّلت رفضها للمسوّدة بأنّ الحقّ في تَغيير الدّين "سوف يفتحُ الباب على مصراعيه أمام النشاط التبشيريّ والاضطرابات السّياسيّة وربما يؤدي إلى نشوب الحروب." 5 إلّا أنّ الدّول المسلمة الأخرى قبلت بالمسوّدة في نهاية المطاف، في حين كانت المملكة العربيّة السّعوديّة هي الوحيدةَ التي لم تصوِّت لصالحه. 6

بعد بضع سنوات، أُدخلّت المادّة الثامنة عشرة حرفيّاً في الميثاق الأوربي لحقوق الإنسان، والذي يُعتبر ملزِماً للدّول الأوروبيّة السّبعة والأربعين الأعضاء في المجلس الأوروبي حينئذٍ؛ غير أنّ محاولات إدراج هذه المادّة في العهد العالميّ للحقوق المدنيّة والسّياسيّة قوبلت بمعارضة من الدّول المسلمة مرّة أخرى وبشكلٍ خاصّ من قِبّلِ أفغانستان والمملكة العربيّة السّعوديّة واليمن والعراق ومصر؛ حيث كان موضوع الحقّ في تغيير الدّين حَجَرَ العثرة أمامَ قبولهم بالقرار.

تبنّت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة مسوّدة العهد العالميّ سنة 1966 بعد أنْ حُذِفَتْ منه كلمة "تغيير" ليحلّ مكانها عبارة تقول أنّ كل شخص لديه "حريّة اعتقاد أو تبني العقيدة أو الدّيانة التي يختارها"، وأضاف العهد أنّه "لا يجوز إكراه أحدٍ على ما يَمنعُ حريتهُ في تبنّي العقيدةِ أو الدّين الذي يختاره." لقد مثّل هذا مراوغةً دبلوماسيّةً لضمانِ الموافقة على مسوّدة الإعلان التي في جوهرها لا تختلف عن مضمون المادّة 18 كونها سمحتْ للنّاس باختيار دينهم دونِ اللجوءِ إلى كلمةِ "تغيير" المثيرة للجدل. وفي سنة 1981 خفّفَ "إعلانُ الأمم المتّحدة لإلغاء جميع أشكال التعصّب والتّمييز على أساس الدّين أو المعتقد" من لغة المسوّدة قليلاً من خلال حذف كلمة "تبنّي"، لكنْ بغضِّ النّظرِ عن المصطلحات، يشير كلا الإعلانين صراحةً إلى حقّ النّاس في تغيير ديانتهم.

من بين الدّول الأعضاء في جامعة الدول العربية، كانت الجزائر وجيبوتي والعراق والأردن ولبنان وليبيا والمغرب والصّومال والسّودان وسوريا وتونس واليمن من بين الدّول التي صَادقتْ على العهد العالميّ للحقوقِ المدنيّة والسّياسيّة، فأصبحت هذه الدّول مُلزَمة ببنود هذا العهد نتيجةً لذلك؛ أمّا البحرين ومصر والكويت وموريتانيا فقد صادقت على العهد ولكنها أبدت بعض التحفّظات؛ حيث علّلت البحرين وموريتانيا ذلك بأنّ للشّريعةَ الإسلاميّة الأولويّةُ على هذا العهد، وقد وقّعت جزر القمر عليه ولكنّها لم تصادق عليه في حين لم توقع عُمان وقطر والسّعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة على الميثاق ولم تصادق عليه.

وعلى الصعيد الدوليّ، دفع الإصرارُ المتزايدُ على قضايا حقوق الإنسان العديدِ من الدّول المسلمة إلى صياغة أنظمةٍ حقوقيّةٍ بديلةٍ لمواجهة الفكرة التي تقول بأنّ المسلمين على وجه الخصوص غيرُ معنيين بحقوق الإنسان وللتّصدي لما اعتبروه مفاهيمَ "غربيةً" من خلال تطوير بدائلَ تغني عن هذه المفاهيم، لكن في الواقع؛ كانت تلكَ محاولاتٍ لخلقِ بيئةٍ محدودة لحقوق الإنسان باستخدام قَدَاْسِةِ الإسلام ذريعةً للإتيان بهذه البدائل.

إنّ أحد أبرز الأمثلة الفاضحة عن هذه البدائل هو الإعلانُ الإسلاميّ العالميّ لحقوق الإنسان الذي أُقِرَّ سنة 1981 وتُرجم إلى الإنكليزيّة؛ وأوضحَتْ "أنّ إليزابيث مايرAnn Elizabeth Mayer" أنّه تمّ طمس الأجزاءِ الأكثرِ تقييداً والموجودة في النّصّ العربيّ للإعلان 7 حيث تبدأ المادّة 12أ في التّرجمة الإنكليزيّة بالقول أنّ: "لكلّ شخص الحقّ في التعبير عن أفكاره ومعتقداته طالما بقي ملتزماً بالحدود المنصوص عليها في القانون." إنّ هذه الترجمة تجعلُ الإعلان يبدو متوافقاً مع الأعرافِ الدّوليّة لأنّ التعبيرَ عن المعتقداتَ - بخلاف اعتناق المعتقدات - يمكن، وفي ظروفٍ معيّنة، أنّ يتمّ تقييدُه بالقانون. (انظر الفصل التالي.)

إنّ التّرجمة الإنكليزيّة للقرار مُضَلِلَةَ وغيرُ دقيقةٍ، حيث يقول النّصّ العربيّ، في واقع الأمر، أنّ "لكل شخصٍ الحقّ في التّفكيرِ والاعتقاد والتعبيرِ عن أفكارهِ ومعتقداتهِ دون تدخّلٍ أو معارضةٍ من قِبَلِ أيّ شخصٍ طالما أنه ملتزمٌ بالحدودِ المنصوصِ عليها في الشّريعة." المشكلة الأولى هنا هي أنّ النّصّ العربيّ لا يميز بين اعتناق المعتقد والتعبير عنه، فكِلا الأمرين خاضعان لضوابطَ قانونيّةٍ بشكلٍ يتعارض مع النّظرة الدّوليّة المقبولة، أمّا المشكلة الثانية فهي أنّ كلمة "القانون" الواردة في التّرجمة الإنكليزيّة لا تعني القانون الأساسيّ بل تعني الشّريعة الإسلامية. لا يمكن في الحقيقة اعتبارُ الوثيقة إعلاناً للحقوق بقدر ما هي إعلانٌ بأنّ الشّريعة الإسلاميّة هي ما يحدّدُ الحقوقَ التي باستطاعة الناس التّمتّعُ بها؛ أضف إلى ذلك أنّه لا يمكنُ تحديدُ هذه القوانين بدقّة، لأنّ الشّريعة الإسلاميّة لا تُعتَبَرُ نظاماَ قانونياَ مدوَّناً، إنما تحتمل العديدِ من التأويلات والتفسيرات من قِبَلِ رجال الدّين.

يتضمّنُ "إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام" مشاكلَ مشابهة، وقد تمّ تبنّيه سنة 1990 من قِبَلِ منظّمة المؤتمر الإسلاميّ 8 التي تتألف من 57 بلداً، ويُوصَف هذا الإعلان بأنّه "دليلٌ أو مرشدٌ للدول الأعضاء في جميعِ مناحي الحياة." يشير هذا الإعلان إلى "الحقوق والحريّات الأساسيّة وفقاً للإسلام" ولا يتحدث عن حريّة المعتقد، بلْ يرفض التّمييز بين النّاس على أساس المعتقد الدينيّ. كما تُعتَبَرُ حريّة التّعبير مَصونةً "طالما أنَّها لا تتعارض مع مبادئ الشّريعة، وينتهي الإعلان بالقول أنّ "جميع الحقوق والحريّات المنصوصِ عليها في هذا الإعلان تتماشى مع الشّريعة الإسلاميّة" وأنّ "الشّريعة الإسلاميّة هي المصدرُ الوحيدُ لتفسير أو توضيح أيّة مادةٍ في هذا الإعلان."

تُوضِّح هذه الصّيغ "البديلة" مقاربة محدّدةً مع قضايا حقوق الإنسان، وهي صيغ لا يجب المغالاة في تقدير أهميتها، فكما تُبَيِّنُ "زيا ميرال Ziya Meral" هذه الحقوقُ معروفةٌ فقط لدائرةٍ صغيرةٍ من رجال الدّولة المسلمين والنّاشطين، وبالكاد تتِمّ الإشارة لها من قِبَلِ المسلمين أثناء النّقاشات حول انتهاكات حقوق الإنسان في العالم الإسلاميّ. 9

إنّ الرِّدَّة عن الدّين أمرٌ قد يرحّب به المسلمون أو يدينوه، تبعاً للظرف؛ فهم يرحّبون بها عندما يرتدُّ أحدٌ ما عن الدّيانة المسيحيّة ويدخل في الإسلام، بينما يعتبرون خروج المسلم عن دينه جريمةً نكراء.

هنالك العديد من الاختلافات في وجهات النظر بخصوص ما يمكن اعتبارُه رِدَّة، وبخصوص العقوبة التي يجب تطبيقها، ولا يوجد نصّ واضح في القرآن بخصوص هذا الأمر، تقول إحدى الآيات، والتي كثيراً ما يُسْتَشْهَدُ بها: "لا إكراه في الدّين" (سورة البقرة: الآية 256)، إلّا أنّ بعضهم يردّ بقولٍ يُنْسَبُ إلى الرسول "من يرتدَّ عن دينه يُقتل"، ويرى البعض أنّ الرِّدَّة تتجاوزُ تخلي الفرد عن معتقده الدينيّ ببساطةٍ، بل يجب النّظر إليها في سياقها التاريخيّ خلال حياة النبيّ، فعلى سبيل المثال يقول طارق رمضان:

"اتّخذ النبيُ تدابيرَ صارمةً، في زمن الحرب فقط، ضدّ مَنِ اعتنقوا الإسلام رياءً ولغرضٍ وحيدٍ هو اختراق المجتمعِ الإسلاميّ والحصول على معلوماتِ لتسريبها إلى العدو. كان هؤلاء في الواقع خونةً اقترفوا خيانة عظمى تستحقّ أنْ يعاقّب عليها بالموتِ لأنّ أفعالهم من شأنها أن تؤدّي إلى تدميرِ المجتمعِ المسلم." 10

يرى عبد المعطي بيومي، البروفيسور في أكاديميةِ الأبحاثِ الإسلاميّة في القاهرة، أنّ الرِّدَّة عن الإسلام ليست كافيةً بحدِّ ذاتها للحكم على المرتدِّ بالإعدام، وقال في مقابلةٍ على محطة بي بي سي أنّ عقوبةَ الإعدام تُطَبَّقُ فقط إذا وُجِدَ أنّ الملحِدَ يعملُ بشكلٍ يتعارض مع مصالحِ المجتمعِ والأمةِ الإسلاميّة، وعمليّاً لا يُعاقَب الملحد بِتُهمَةِ تخليه عن الدّين وإنما بِتُهمَةِ الخيانة. أمّا عبد الصّبور شاهين، الكاتبُ الإسلاميّ والأكاديميّ في جامعة القاهرة، فيرى أنّ التخلي عن الدّين لا يُعتبرُ جريمةً بحدِّ ذاته، لكنّه يقدّمُ نظرةً أكثرَ محدوديّةً لما يمكن قبوله فيقول: "إذا تحوّل الإنسان من الإسلام إلى الكفر فيجب أنّ يظل الأمر مسألة شخصيّة يجب عدمُ المجاهرة بها، ولكن إذا جَاهَرَ الإنسان برِدَّته فإنَّ ذلك يرقى إلى التسبب بالفِتنَةَ، وبالتالي يُعتبر تصرّفه تصرّفاً مشابهاً لمن يحارب الإسلام، ويجب عند ذلك قًتلُهُ." إنّ ذلك يعني أنّ المرتدّين عن الدّين يفقدون حقّهم في حريّة التعبيرِ ويعاقَبون بالموت. 11

لا يُعتبر مثلُ هذا النوع من المواقف إسلاميّاً صِرفاً؛ فالفيلسوف اليونانيّ أفلاطون، على سبيل المثال، يعتبر أنّ الإلحادَ والمعصية هي من أسباب ارتكاب الرّذائل، بالتّالي هي مشاكل يجب التعامل معها بالقانون، كما ويؤيّد أفلاطون في الجزء العاشر من كتاب القانون وضعَ الدّين تحت سُلطة الدولة، ومعاقبةَ مَنْ يتحدّثون أو يتصرّفون بوقاحة مع الآلهة، وهذ فكرة لا تبدو غريبة للعرب في يومنا هذا. يقول أفلاطون:

"يجب أنْ يكون هناك قانون واحد يجعل الرّجال عموماً أقلّ عُرضة لانتهاك القانون بالقول أو الفعل أو ارتكاب الحماقات، لأنّه لن يُسمَح لهم بممارسة الشّعائر الدّينيّة التي تخالفُ القانون."

كما حَدَّدَ أفلاطون نوعين من غير المؤمنين يجب معاقبتهم تبعاَ للقانون؛ الأول هو المنافق، والثاني هو الشخص الذي تمّ تضليله، فيكون بالتالي بحاجة لردعه وفرضِ قيودٍ عليه، حيث يضيف أفلاطون:

"دع أولئك الذين غيّروا قناعاتهم، بسبب افتقارهم للفهم لا بسبب خُبْثٍ أو طبيعةٍ شريرةٍ، ولْيرسلهمُ القاضي إلى دار الإصلاح وأنْ يحكم عليهم بمقاساةِ السّجن لفترةٍ لا تقل عن خمسِ سنواتٍ يُسمح لهم خلالها بالتواصلِ مع المواطنين الآخرين، باستثناء أعضاءِ المجلسِ الليلي، واجعلْ أعضاءَ المجلسِ يتناقشون مع المساجين فيما يخصّ تحسين صحّتهم الفكريّة، وعندما تنتهي فترة سَجنهم يجب إعادة من تعافى فكرُه إلى مجتمع العقلاء، لكن في حال لم يحدث ذلك، وفي حال تمّت إدانتهم مرّة أخرى، يجب أنّ يعاقَبوا بالموت."

يقول "آر أف ستاليR.F. Stalley " في كتابه "مقدمةٌ إلى قوانينِ افلاطون": "لا شكّ أنّ أفلاطون كان يتوقع من أعضاءِ المجلسِ الليلي أنْ يحوّلوا الملحدين إلى الدّين من خلالِ نقاشٍ فلسفيّ، ولكن بما أنّ أَمَلَ الملحدِ الوحيدَ في الحريّة - والنجاة في الواقع -يكمن في موافقته على إرشادات مرشديه، فإنَّ من الصعب أنّ تتّسم ظروفُ النّقاش بالإنصاف والحريّة، وبالتالي يُعتبَر وصف هذه الخُطوة بأنها "غسيل للدّماغ" هو الوصفَ الأكثرَ دقَّةً". 12 أما النوع الأخطر من المذنبين فهم من يجمعون بين الإلحاد "وازدراء البشريّة" وهؤلاء يجب سجنهم مدى الحياة، يقول أفلاطون:

"لا تدع إنساناً حرّاً يقتربُ منه، وأتركه يحصل على وجبات طعامه التي يخصّصها له حُرّاس القانون من أيدي العبيد، وعندما يموت ألِقِه خارجَ حدود الدّولة ولا تدفنْه." 13

رسم "توماس مور" في كتابهِ "المدينةُ الفاضلة" صورةً تخيليةً لمجتمعٍ مثاليّ في بداياتِ القرنِ السادسِ عشر، وهو مجتمع يسود فيه التسامح الدينيّ إلّا مع الملحدين. آمن سكان المدينة الفاضلة بالحياة بعد الموت حين يُعاقب المذنب ويُكافأ التقي، وقد اعتُبِرَ ذلك ضرورياً للنّظامِ الصّحيح، فالنّاس سيحتقرون جميع القوانين والأعراف الاجتماعيّة علانيةً في حال لم يكن هنالك ما يردعهم. يقول "مور" في الكتاب:

"من يشك أنّ رجلاً لا يخشى شيئاً سوى القانون، ولا أملَ لهُ في الحياة بعد الموت، سيقوم بكل ما بوسعه ليلتفّ على قوانينَ دولتهِ بالحيلةِ أو ينتهكها بالعنفِ، لا من أجلِ شيء سوى إشباعِ غرورهِ الشخصيّ؟"

ومن هذا المنطلق لا يمكن معاملة غير المؤمنين كمواطنين يتمتّعون بحقوق المواطنةِ الكاملة. يضيف "مور":

"يجب ألّا يُمنحَ أيّ شخص يحمل مثلَ هذه الآراء أيّة مراتبَ شرفيّةٍ أو مناصب أو مسؤولياتٍ عامة، فهو مُصَنَّفٌ عالمياً بأنّه وضيعٌ وبليد، غير أنّهم لا يعاقبونه لأنهم مقتنعون أنّه لا يمكن إرغام شخصٌ على اختيار معتقد ما بالقوّة."

لا يختلف هذا عن فكرة "الموت المدنيّ" في الأردن اليوم حيث يُجَرَّدُ المرتدون عن الإسلام من جميع حقوقهم الاجتماعيّة الأساسيّة مثل الزّواجِ والميراث وحضانةِ الأطفال.

كان الفيلسوف الإنكليزيّ "جون لوك John Locke" مؤيّداً للحريّة الدّينيّة، فقد قال في رسالةٍ كتبها سنة 1689 بعنوان "رسالة في التّسامح": "لا يحقّ لأيّ إنسانٍ بأيّ شكلٍ من الأشكالِ تجريدُ أيّ شخصٍ من حقوقهِ المدنيّة بحجّة انتمائه إلى كنيسةٍ أو ديانةٍ أخرى، كما لا يحقّ لأيّ شخص أو كنيسة أو حتى أحدِ دول الكومونويلث مصادرةُ الحقوقِ المدنيّة أو الممتلكات باسم حمايةِ الدّين." 14

اعتبر "لوك" التنوّع الدينيّ أمراً مفيداً وليس سبباً للاضطرابات الأهلية، تلك الاضطرابات التي يَرى أنَّها تحدثُ نتيجة محاولة محاربة التنوّع الدينيّ، لكنّه وَجد أنّه من الصعب تقبّل الملحدين بحجّة أنّ إطلاق العنان لهم يمكنُ أنْ يوهنَ العقيدةَ الدّينيّة للأمّة، وبالتّالي سيقوّض قيمها الأخلاقية؛ كما شكّك "لوك" بنزاهة الملحدين حيث يقول: "إنّ الوعود والمواثيق والأَيْمان التي تمثّل روابط المجتمع ليس لها أيّة قيمةٍ بالنّسبة للملحدين، لأنّ الابتعاد عن الله - ولو بالفِكر فقط - سيؤدّي إلى حلّ هذه الرّوابط."

إنّ النّظريّة القائلة أنّه لا يمكن الوثوق بالملحدين – لأنهم لا يخشون العقوبة الإلهيّة إنْ كذبوا أو أخلّوا بالوعود - وفّرت أساساً قانونيّاً للتّمييز الذي استمرّ في إنكلترا لمدّة قرنين بعد وفاة "لوك"، فقد مُنِعَ الملحدون من شغل مناصبَ محدّدةٍ، أو أنْ يُدْلُوا بشهادتهم في المحاكم لأنّها كانت تشترط على الشّاهد أنّ يؤدّي قَسَماً دينيّاً، لكن في نهاية الأمر تمّ التغلّب على هذه النّقطة من خلال القبول "بتأكيدات" غير دينيّة كبديلٍ للقَسَم. وفي سنة 1880 انتُخِبَ "تشارلز برادلاف Charles Bradlaugh"، وهو ملحد وعضو في الحزب الجمهوريّ، عضواً في البرلمان عن مقاطعة "نورثامبتون Northampton" وعند وصوله إلى مجلسِ العموم طَلَب أنّ يؤدي "التأكيد" غير الدّينيّ بدلاً من قَسَمِ الولاء، غير أنّ البرلمان رَفَض طلبه فدار نقاش حادّ كانت نتيجته خسارة "برادلاف" لمنصبه؛ بعد ذلك أُجريت انتخابات جديدة شارك "برادلاف" فيها ونجح ليتمّ حرمانه من مقعده مرة أخرى. تكرّر هذا الأمر ثلاث مرّات لكن في سنة 1886 أعيد انتخاب "برادلاف" للمرّة الرّابعة وسُمِحَ له عندها بتأدية "التّأكيد" غير الديني بدل القَسَم لشغل مقعده في البرلمان.

من الصعب تحديد الموقف القانونيّ من الرِّدَّة في الدّول العربيّة بدقّة، وأحد أسباب ذلكَ أنّ النّظم القانونيّة في هذه الدّول هي مزيجٌ من القوانينِ الدّينيّة والعلمانيّةِ. إنّ قوانين الشّريعة الإسلاميّة في بعض الدّول هي المهيمنة، بينما تُطبَّق قوانين الشّريعة على قوانين أحوال الشّؤون المدنيّة كالزّواجِ والطّلاقِ ... إلخ في الدّول الأخرى. قد يشوب بعضَ نصوص الشّريعة الإسلاميّة بعضُ الالتباس والإشكال لأنها نصوصٌ غير وضعيّة (أي ليست من وضع البشر) وغيرُ مدوّنة على شكل قانون، ولأنها تقبل الكثير من اجتهادات القضاة وتأويلاتهم، أضف إلى ذلك أنّ ما تنصّ عليه نصوص الشّريعة - أو يبدو أنَّها تنصّ عليه - قد لا يعكس بالضرورة التطبيق الفعليّ لهذا القانون، والمضمون الحقيقيّ للّنصّ الشّرعيّ قد لا يتطابق بالضّرورة مع تطبيقه فعلياً، فالمرتدّون عن الإسلام يتمّ التعامل معهم وفقاً للمزاج العامّ للمجتمع بقدر أكبر ممّا تنصّ عليه الشّريعة الإسلاميّة.

ليس هناك قوانين وضعيّة في الجزائر ومصر والأردن ولبنان وليبيا والمغرب وعُمان وتونس ضدّ الرِّدَّة عن الإسلام، ولا تُعتبر الرِّدَّة خروجاً عن القانون في دولة البحرين رغم أنّ الدّستور ينصّ على أنّ قانون الشّريعة "مصدر أساسيّ" للّتشريع ما يعني أنّ الرِّدَّة قد تُعتبر أمراً غيرَ قانونيّ، أمّا في العراق فتَمنعُ القوانين والتّشريعاتُ الحكوميّة الرِّدَّة عن الإسلام؛ لكنّ القوانينُ المدنيّة وقانون العقوبات لا ينصّان على أيّة عقوبةٍ على الرِّدَّة.

تُعتَبر الرِّدَّة عن الإسلام في كلٍّ من الكويت وقطر والسّعوديّة والسّودان والإمارات واليمن جريمةً عقوبتها الموت من الناحية النّظريّة، لكن من النّاحية العمليّة لم تطبَّق أيّ عقوبةِ إعدام بتهمة الرِّدَّة في أيّ من هذه الدّول، كما لم تحصل أيّة عملية إعدامٍ بِتُهمة الرِّدَّة في السّعوديّة منذ أكثر من عشرين عاماً وفقاً لوزارة الخارجيّة الأمريكيّة، 15 وفي الحالات النّادرة التي يصبح فيها حكم الإعدام ممكناً، تتفادى هذه الدّول تطبيقه عادةً.

فعلى سبيل المثال صادفت السُّلطات الكويتيّة سنة 1996 أول حالةِ رِدَّة عن الإسلام منذ الاستقلال عندما ارتدَّ حسين علي قمبر، وهو شيعيّ، عن الإسلام وتحوّل إلى المسيحيّة وغيّر اسمه إلى "روبرت"، وكان قمبر قد انفصل عن زوجته وأصبح موضوعُ ردّته معروفاً أثناء جلسة محكمةٍ بخصوص حضانة أطفالهما. بموجب الشّريعة الإسلاميّة بُذلتِ الكثير من الجهود لثني قمبر عن قراره ولكن دون جدوى؛ عند ذلك بدأ الإسلاميَون بمضايقته ورفع الدّعاوى القضائيّة المطالبة بإدانته بتهمة الرِّدَّة، ثم تمّ تحويل القضية إلى المحكمة، فحَكَم أحد القضاة على قمبر بالموت. وَضَعَ ذلك الحُكمُ السُّلطاتِ الكويتيّة في مأزقٍ لأنّه لم يكن هناك شكّ - في نصوص الشّريعة - أنّ قمبر مرتدّ، فراحت تبحث عن حلّ للخروج من هذا المأزق فأصدرت له جوازَ سفرٍ وسمحت له بمغادرة البلاد بهدوء. 16

حدثت قصّة مشابهة في اليمن سنة 2000 وذلك عندما ارتدّ محمّد عمر حجي اللاجئ الصّومالي عن الإسلام واعتنق المسيحيّة؛ فاعتُقلَ ووُجِّهَت إليه تهمة الرِّدَة، إلًا أنّ كثيراً من المحاولات أُجريت خلف الستار لتفادي حكم الإعدام، وانتهتِ القضيّة بمنحِ حجي إعادة توطين طارئ له ولزوجته ولطفله في نيوزيلاندا. 17

من بين اثنتين وعشرين من الدول الأعضاء في جامعة الدّول العربيّة، تُصّنف السّعوديّةَ والسُّودانَ من قِبل قانون الولايات المتّحدة الأمريكيّة للحريّة الدّينيّة الدّوليّة على أنّها "دولٌ تثير قلقاً استثنائياً." بعد انفصال جنوب السّودان عن السّودان واستقلاله سنة 2011، اتّخذ الشطرُ الشماليّ، والذي ما يزال يعرف بالسّودان، طابعاً إسلاميّاً أكثر قوّة وبروزاً، فوفقاً لتقديراتٍ حكوميّةٍ يشكّل المسلمون 97% من السّكان، وأغلبهم من السنّة، بينما يشكّل المسيحيّون ما نسبته 3%. ينقسم المسلمون في هذا البلد في فِرَقٍ وطوائفَ دينيةٍ متنوّعةٍ، كالشّيعة والصّوفيين والإخوان الجمهوريون وعدد متزايد من السلفيّين. إنّ التّمييز والانتهاكاتِ الدّينيّةَ والطّائفيّة منتشرةٌ في السّودان رغم أنّ التعصّب الدينيّ يغلب عليه البعد العرقيّ، وفي هذه الدوّامة فإنَّ الاتهامات بالرِّدَّة هي أمرٌ شائعٌ نوعاً ما، ولكن نادراً ما ينتج عنها اتهاماتٌ رسميّةٌ، وقانون الرِّدَّة في السّودان يتّصف بالغموض ويجرّم والرِّدَّة وما يشجّع على الرِّدَّة.

تميل الرِّدَّة في السّودان إلى كونها متعّلقةً بالاختلافات الدّينيّة والعرقيّة أكثر من كونها متعلقة بالتخلّي الفعليّ عن المعتقد، ففي سنة 2011 على سبيل المثال اعتقلت الشرطة في جنوب الخرطوم 150 رجلاً وامرأة وطفلاً أغلبهم من العِرق الهوسيّ بِتُهمةِ الرِّدَّة، مستندين في ذلك إلى الطريقة التي كانوا يؤدّون فيها الصّلاةَ الإسلاميّة، فاحتُجِز بعضهم شهرين تقريباً ليفرَجَ عنهم جميعاً في نهاية المطاف، وذلك بعد تعليمهم "كيفيّة أداء الشعائر الدّينيّة بالشّكل الذي تراه السلطة السودانية صحيحاً." 18 يشدّد القانون السّوداني على منحِ كلِّ متهمٍ بالرِدّة فرصةً للتوبة؛ رغم أنّ الرِّدَّة تُعتبرُ جريمةً عقوبتها الإعدام، وهذا ما يفسّر عدم حدوث حالات إعدام، وقد يفسّر أيضاً عدم الجدّيّة في التّعامل مع قانون الرِّدَّة.

في المقابل، هنالك من يعتقد أنّ قانون الرِّدَّة لا يُطَبَّقُ على النحو الكافي، كما يَظهر في خبر نُشر في صحيفة سودان تريبيون:

"قال عمار صالح رئيسُ المركز الإسلاميّ للدّعوة والدّراسات المقارَنَة أنّ حالاتِ الرِّدَّة والإلحادِ في السّودان في ارتفاعٍ مستمرٍ؛ متهماً السُّلطات بالتّقصير في معالجة هذه القضيّة، وقال في مؤتمر صحفيّ عَقده الثلاثاء أنّ عدد المرتدّين عن الإسلام في الخرطوم وحدها وصل لنحو 109 مرتدين؛ موضحاً أنّ هذا الرقم في تزايد مستمرّ ومخيف خاصّة مع تواجد الملحدين والمثليّين جنسياً. هاجم صالح الحكومة السّودانية لعدم قيامها برَدٍّ حازم ضدّ المبشّرين الذين يعملون بكل جرأة في السّودان، وأضاف أنّ أيّ شخص يُنكر وجود النّشاط التبشيري أو الزيادة في عدد الذين يتحولون إلى المذهب الشيعيّ هو إما يعيش في المريخ أو في حالة إنكار. ناشدَ صالح الجهات الرسميّة والمجتمع السّوداني الوقوفَ في وجه حملات التبشير بالنّصرانية والعثور على حلٍّ طويلِ الأمد للمشكلة، وأضاف أنّ جهودَ الحكومة في هذا السياق متواضعةٌ مقارنةً بجهود حملات التبشير بالنّصرانية." 19

قد يكون كثير ممّا سبق مجرّد رُهاب ليس أكثر، ولكنّه أيضاً علامةً على الغليان الدينيّ متعدّدِ الأبعاد في السّودان. ذَكَرت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة في تقريرٍ لها عن الحريّة الدّينيّة نُشِرَ سنة 2002 ما يلي:

"في شهر كانون الأول/ديسمبر قام أشخاص مجهولون بنشرِ ملصقاتٍ في الخرطوم تحثّ المسلمين على عدم الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السّنة؛ مشدّدين على أنّ الاحتفال بأعياد غير المسلمين يرقى إلى رتبة الكفر. خلقَ تزايد أعداد السلفيّين بين المسلمين صراعاً مع المسلمين غيرِ السلفيّين، ففي التّاسع والعشرين من شهر كانون الثاني/فبراير حثّ أفرادٌ من مجموعةِ أنصار السنَّة في الخرطوم عامّة المسلمين على الامتناع عن الاحتفال بعيد المولد النّبويّ الشّريف، ممّا أدّى إلى ملاحقتهم من قبل ناشطين صوفيّين. في اليوم التالي اندلعت مواجهاتٌ عنيفةٌ بين الطرفين مخلّفة ما بين 35 إلى 50 مصاباً."

في الطّرف المقابل تبدو الأمور في الدّول التي ليس فيها قانون محدد بخصوص الرِّدَّة أكثرَ تعقيداً، فلا يوجد في الأردن مثلاً قانونٌ واضحٌ يَمنَعُ المسلمين من التخلّي عنِ الإسلام، كما لا يوجد عقوبات قانونيّة رسميّة لذلك، غير أنّ الحكومة الأردنيّة لا تعترف رسميّاً بحالات الرِّدَّة عن الإسلام؛ الشّيءُ الذي قد يكون له عواقبُ خطيرةٌ على المرتدّين حيث تستمر معاملتهم على أنّهم مرتدّون عن الإسلام بدلاً من معاملتهم على أنّهم معتنقون لديانة أخرى أو ملحدون.

إنّ قانون الأحوال الشخصيّة في الأردن يُعمل به من قِبل نوعين من المحاكم، وهي محاكم شرعيّة للمسلمين، ومحاكم أخرى لأتباع الدّيانات غير الإسلاميّة المعترف بها. يُعرَض المرتدّون عن الإسلام على المحاكم الشّرعيّة - بشكاوى ذويهم أو أشخاص آخرين - ويتمّ تجريدهم من الحقوقِ المهمّةِ، وهذا عملياً هو "الموت المدنيّ".

"استمعتْ المحاكم الشّرعيّة في الأردن بين عامي 2005 و2006 إلى حالتَيْ رِدَّة عن الإسلام، ففي كانون الثاني/يناير من سنة 2005 أعلنت محكمةُ الاستئناف الشّرعيّة عن وضعِ مسلمٍ تحوّل إلى المسيحيّة تحت وصاية الدّولة، وجرّدته من حقوقهِ المدنيّة، وأعلنت أنّ زواجه باطلٌ، كما وأعلنت المحكمة أنه لم يعد له أيّ حقّ في الميراث وأنّه لن يُسمح له بالزّواج مرّة أخرى من زوجته إلّا إنْ عاد إلى الإسلام، كما أنّه حُرِمَ من اعتباره تابعاً لأي دينٍ آخر؛ وتضمَّن قرار المحكمة احتمال تحويل رعاية الطفل القانونيّة والجسديّة إلى شخصٍ آخر. عندئذٍ غادر هذا المرتدّ الأردن وحصل على لجوءٍ واستقر في دولةً أخرى. حصلت حالة مشابهة سنة 2006 عندما قرّرت المحكمة تجريد مواطن أردنيّ آخر من أوراقه الثبوتية حارمةً إياه من حقوقهِ الاجتماعيّة الأساسيّة." 20

كما هو الحال في الأردن، لا يوجد في مصر قانون محدّد يحرِّمُ الرِّدَّة ولكن حَصَلت حالة "موت مدنيّ" أخرى عندما وُضِعَ طفل في السابعة من عمره تحت وصاية جدّه البالغ من العمر 73 عاماً لأنّ والدَي الطّفل غيّرا دينهما واعتنقا الدّيانة البهائية. قال الجدّ واسمه محمّد عبد الفتّاح أنّه ذهب إلى المحكمة عملاً بنصيحة المفتي المصريّ العامّ حيث قال: "نصحني المفتي أنْ أعتبر أبنتي قد ماتت، وأن أرفع دعوى قضائيّة للمطالبة بالوصاية على حفيدي." غير أنّ قرار المحكمة لم يُطبَّق لأنّ والدَيِ الطفل كانا قد غادرا مصر مصطحبين طفليهما. 21

يُعتَبرُ اللجوءُ إلى الدعاوى القضائية في النّزاعات الدّينيّة أمراً شائعاً جدّاً في مصر، ويستخدمها الإسلاميّون لمضايقة من لا يتّفقون معهم في الرّأي على وجه الخصوص، حتّى لو كانوا مسلمين. يروي ناصر أبوزيد، أستاذُ الأدبِ العربيّ في جامعةِ القاهرة، كيف بدأت المشكلة سنة 1992 عندما تقدّمَ لوظيفةِ مدرّس في الجامعة. دَرَستِ اللجنة المسؤولة عن التّرقية الوظيفيّة ثلاثة تقارير عن عمله، وقررت أنّ اثنين منها كانا يصبان في مصلحته، أمّا التقرير الثالث الذي تمّ تحضيره من قبل الدّكتور الإسلاميّ عبد الصّبور شاهين فقد شكّك في معتقداتِ أبو زيد الدّينيّة، مدّعياً أنّ بحث ابو زيد تضمّن "إهانةً واضحة للعقيدة الإسلاميّة" ممّا دفع باللجنة إلى رفض تعيينه في المنصب بمعارضة سبعة أصوات يقابلها موافقةُ ستة أصوات. لم يكتفِ الدكتور شاهين بحرمان أبو زيد من ترقيته في الوظيفة، بل كتب مقالاً في إحدى الصحف يتهم فيه أبو زيد بالرِّدَّة، فدفعت تلك المقالة بدورها مجموعةً من المحامين الإسلاميّين إلى رفع دعوى قضائيّة ليجبروا أبو زيد على طلاق زوجته بذريعة أنّ المرأة المسلمة لا يحقّ لها الزواج من مُرتَدّ عن الإسلام، وعندما فاز المحامون بالدّعوى لم يكن أمام أبو زيد سوى الهروب من مصر برفقة زوجته. 22

وجدت الكاتبة المصريّة، والمدافعة عن حقوق المرأة نوال السعداوي، نفسها في موقف مماثل سنة 2001 عندما سعى الإسلاميّون في طلاقها من زوجها بعد 37 عاماً من الزواج، بحجّة أنّ آراءها تخرجها من الإسلام، ويبدو أنّ السّبب الرّئيس وراء ذلك كان مقابلةٌ أجرتها السّعداوي وقالت فيها أنّ تقبيلَ الحجرِ الأسود في الكعبة ما هو إلّا "بقايا طقوس وثنيّة" 23 لكن لحسن حظّ السّعداوي، قُوبل طلبُ الطّلاقِ بالرّفض.

كلتا هاتين الحالتين أصبحتا ممكنتين بسبب وجود الحِسبة، وهي مبادئ قانونيّةٌ إسلاميّةٌ مبنيّةٌ على فكرة المسؤوليّة الجماعيّة، أي أنّ لكلّ مُسلمٍ دور يقوم به ليساهم في عمل الخير ومحاربة الشر. بعد نجاح الإسلاميّين في القضيّة التي رفعوها ضدّ أبو زيد أصبحت الحِسبة في مِصر عبارة عن ميثاقٍ للفضوليين، ممّا سمح لذوي الميول الدّينيّة - وغير الدينية أحياناً - برفع عددٍ لا يُحصى من الدّعاوى القضائيّة الكيديّة ضدّ شخصياتٍ مرموقة يُشكّ في معتقداتها الدّينيّة.

من النّاحية العمليّة كانت هذه دعاوى قضائيّة خاصّة، لم يُعرَض كثيرٌ منها أمام القضاء، ولكن كان لها تأثير مخيف. في سنة 2009 اتّهمت الشّبكةُ العربيّة لمعلوماتِ حقوقِ الإنسان ومقرُّها في القاهرة أنّ حكومة مبارك تسمح لبعض القضايا بالوصول إلى المحكمة رغم أنّ المتّهمين فيها لم يكن لهم أيّة مصلحة حقيقيّة أو وضع قانوني فيها، وأضافت قائلة: "أصبحت هذه الحالات غير القانونيّة أصلاً تشكّل تهديداً يخيّم فوق رؤوس جميع المثقّفين في مصر، فبدلاً من عقد نقاشٍ منطقيٍّ مفتوح مبنيّ على آراءِ المثقّفين، يقوم مسؤولو الحِسبة بملاحقتهم قضائيّاً ويرفعون ضدّهم سلسلة من الدعاوى القضائيّة، 24 ويُقال أنّ محامياً يُدعى نبيه الوحش رَفَع أكثر من 1000 قضيّة حِسبة خلال 10 سنوات. 25

بغضّ النّظر عن الإجراءات القانونيّة، يبقى احتمال أنْ يقوم بعض الحمقى بتسوية الأمور بأنفسهم ممكناً، ففي سنة 1992 قام عضوان من الجماعة الإسلاميّة - وهي حركة مسلّحة - بإطلاق النار على فرج فودة وقتلوه، وفودة علماني بارز كثيراً ما كان يَسخرُ وبلا هوادة من شخصيّات إسلاميّة بارزة. رحّبت جماعةُ الإخوان المسلمين علناً بقتل فودة، وأثناء محاكمة القتلة وَصَف أحدُ علماء الأزهر، وكان عضواً سابقاً في جماعةِ الإخوان المسلمين، تصرُّف القاتليْن بأنه عملٌ مبرّرٌ لأنّ السُّلطات المصريّة فشلت في معاقبةِ فودة بعد أنِ ارتدّ عن الإسلام. 26 وبعد ذلك بعامين طُعِنَ نجيب محفوظ -العربيّ الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل للأدب - في رقبته خارج منزله بعد أنِ اتّهمته بعض الجماعات المسلّحة بالرِّدّة. نجى محفوظ، الذي كان في الثانية والثمانين من عمره في ذلك الوقت، من محاولة الاغتيال تلك، ولكنّها تسبّبت في شللٍ جزئيّ في يده اليمنى.

يتضح مما سبق أنّه ما يزالُ أمامَ الدّول العربيّة طريقٌ طويلٌ جداً قبل أنْ تصبح حريّة العقيدة واقعاً ملموساً، وليس مردّ هذه المشكلة السّياساتُ الحكوميةُ فحسب، وإنما مجتمعات لا تتقبل أنّ ما يختاره الفرْد من اعتقادات هو أمرٌ يعنيه وحده ولا يعني أحداً سواه.

الفصل الثامن


الإشعار القانوني

تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com

ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا:

https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode