|
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
خلقتِ الثّورة المصريّة الّتي أطاحت بالرئيس حسني مبارك سنة 2011م فرصةً لغير المؤمنين للخروج من الظلّ أكثر من أيّ بلدٍ عربيٍّ آخرَ، فظهر الملحدون على شاشات التّلفاز المصريّة ليتحدّثوا عن عدم إيمانهم على الملأ، وأُجريتْ معهم مقابلاتٌ في الصّحفِ وعقدوا اجتماعاتٍ علنيةً، حتى أنّهم طالبوا بأن تُأخذ حقوقهم بعين الاعتبار عند صياغة دستور جديد.
وكان واضحاً أنّ أحد المُحرمات تم كسرُه، ولم يعد بإمكان المصرييّن تجنّب حقيقةِ أنّ غير المؤمنين موجودون، حتّى لو كانتِ الفكرة بالنّسبة للغالبيّةِ العظمى لا تزال بغيضةً، وحتّى لو مالت وسائلُ الإعلامِ إلى تصويرِ الملحدينَ كنماذجَ للانحلالِ الأخلاقيّ الذي وصلت إليه مصر.
كان لهذا بلا شكٍّ صلةٌ بروح الثّورة الّتي عصفت بالبلادَ رغم تباين الآراء حول ماهيّة تلك الصّلة، وقد يكون هناك أكثر من تفسير لذلك؛ كما ينبغي التّمييز بين الإلحاد كظاهرةٍ، بالكاد كانت تُرى بعد صعود الإسلام السياسيّ، وبين الإلحاد الذي ربما كان موجوداً أصلاً ولسنواتٍ عدّةٍ في بعض الحالات، ولكن دون أن يُسمَعَ له صوتٌ.
لم تكنِ الثّورة المصريّة وانتشارُ الخطابِ الإلحاديِّ في مصرَ سبباً ونتيجةٍ بقدر ما كانا نتيجتين لعمليةٍ واحدةٍ، ألا وهي عملية مساءلة السلطة وتحدّيها، الشيءُ الذي كان لوسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ دورٌ مهمٌّ فيه من خلال تسهيل تبادلِ المعلوماتِ والأفكار. غير أنّ الانتفاضة الشّعبيّة ساهمت أيضاً في مسائلة الدّين لأنّها ربما جمعت الكثيرَ من الجماعاتِ المتباينةِ من الناشطين السّاعينَ لإسقاط النظام وصَهَرَتهم في بوتقةٍ ايديولوجيةٍّ واحدة.
يقول جمال، الملحدُ والناشطُ السياسيُّ: "أثناء الثّورة وُلِدَ عند الشباب عموماً شعورٌ بإمكانيةِ التّشكيك في أيِّة فكرةٍ قائمةٍ أو أيّةِ مؤسسةٍ كانت موجودةً قبل الثّورة، وحتّى في الدّين نفسه." غير أنّ ذلك لم يكن من فراغ حتماً، فمن المحتمل أنّ الثّورة ضّد نظام مبارك شجّعت المشكّكين على تجاوز العراقيل، وأمّنت لهمُ اتّصالاً مع من يحمل فكراً مماثلاً، إلّا أنّ بذورَ الإلحاد ربّما كانت موجودةً أصلاً. ويَعتبر جمال الحصولَ على المعلومات عاملاً أساسيّاً في ذلك، ويتابع قائلاً:
"لقد سمعتُ النّاس يقولون على شاشات التلفزيون وفي أعمدة الصّحف أنّ الإنترنت أدّى إلى صعود الإلحاد والتّشكيك في الأديان بشكلٍ عامّ، وأعتقدُ أنّ هذا التقييم دقيقٌ إلى حدٍّ كبيرٍ، لأنّ انتشار الإنترنت في مصر منذ سنة 2000 وحتى يومنا هذا أدّى إلى وصول كمٍّ هائلٍ من المعلومات دون أيّ تصفيةٍ تُذكر، وبالتّالي فإنّك لو أردت أنْ تقرأ عن المسيحية من مصادرها المباشرة لاستطعتَ العثور عليها في شبكة الإنترنت، ولو أردتَ أنْ تقرأ عن الإلحاد أو الإسلام أو أي نُسَخٍ أخرى من الإسلام، أو عن الأشخاص الذين يشتمهم الدُعاة سيكون بمقدورك وبكلّ بساطةٍ البحثُ عنهم في غوغل." 1
ولقد تشكلّتْ رحلة جمال نحو الإلحاد من خلال نشاطه السياسيّ في الدّرجة الأولى حيث يقول: "لم تكن غايتي تركَ الإسلام وحسبْ، بلِ الخروجَ من كلّ دين، وقد أصبحتُ على قناعة أنّ قضيّة الدّين كلَّها ضارةٌ لا نفع منها."
نشأ جمال وترعرع فيما يصفهُ بأسرةً مصريّةً محافظةً نموذجيّة، والتحق في المراحل الأولى من تعليمه بمدرسةٍ دينيّةٍ. وكان والده معلماً وخطيبَ جمعةٍ في أحدِ المساجد المحليّة، وكثيراً ما كان يصطحب ابنه جمال معه إلى المسجد لسماع الخطبة. وفي منتصف سنّ المراهقة، كان جمال يستلهمُ من عِظاتِ عَمْرو خالد، وهو محاسبٌ سابقٌ أسّسَ قاعدةً شعبيةً واسعةً من خلال اعتماد أسلوب المبشّرين المسيحيّين الأمريكيّين عبر شاشات التلفزيون. وعلى عكس الكثير من الأئمة المتجهّمين في المساجد المصريّة، ارتدى عَمْرو خالد البدلاتِ الأنيقةَ وتحدّث بلغةٍ واضحةٍ ولهجةٍ وُديّة مرسلاً الدعاباتِ أحياناً، غير أنّ حماسَ جمال لم يدمْ طويلاً، فقد ألحدَ في غضون سنينَ قليلةٍ وبشكلٍ سريٍّ دون أنْ يبلغ حتى والديه، وعِند إجراء المقابلة معه طلبَ عدمَ الكشفِ عنْ أيّةِ تفاصيلَ يمكنُ أنْ تؤدّي إلى تحديد هويته.
يقول جمال:
"بدأت التّصدّعات تظهر عندما كنت في سنّ 19 أو 20 وذلك نتيجةً للسياسةِ بشكلٍ رئيس. كنت أحاول أنْ أفهم ما هي عِلّة مصر من حيث الحكم، وأن أفهمَ سِجِلٍّ حقوقِ الإنسان وقضيةَ غيابِ الديمقراطيةِ والفسادِ وغيرِ ذلك، وبدأتُ أميل إلى فكرة إصلاح المجتمع من المنظور الدّنيوي، وهذا ما دفعني إلى الانضمام إلى الاحتجاجاتِ. كنّا مجموعةً من الشباب من جميع الأحزابِ والحركاتِ بغضّ النّظر عن الإيديولوجيّات، باستثناءِ أيٍّ حركة إسلاميّة طبعاً. كنّا ننظّم المظاهراتِ معاً ونطبع المنشورات ونعقد اللقاءات. كانتْ تجْمَعُنا غايةٌ واحدةٌ هي إسقاطُ نظامِ مباركَ وتحقيق الديمقراطيّة."
كلّما زادَ انخراطُ جمال في النّشاطِ السياسيّ أكثرَ ترسّختْ نظرتُه للدّين على أنَّه العقبةُ أمامَ التغيير حيث يقول:
"كنّا نقوم بكلّ هذه النشاطات الاحتجاجيّة، ثم أذهب إلى المسجد على سبيل المثال لسماعِ خطبةِ الجمعةِ لأجدَ إماماً سلفيّاً يخطب في النّاس قائلاً أنّه من الخطأِ الخروجُ على الحاكمِ لأنّ الله هو من ولّاه، وأنّ علينا إصلاحَ أنفسِنا أولاً لا الحكومةَ، وهُراءً من هذا القبيل. كان الإمام في الحقيقة يتزلف إلى الحكومة، وعندها بدأتُ أرى الخطأَ في خلط الدّين بالسياسة، وكيف أنَّ الخطابَ الدينيَّ يمكن أنْ يُضرَّ بالجهود الّتي بذلناها كناشطينَ في سبيلِ تحسين حياة النّاس وتحقيق الديمقراطيّة. كلُّ ما كان الدُعاةُ الدينيّون يقولونه للناس يتلخّص في أنّ هذا الأمر حرامٌ، وأنّه لا يمكنكم الاحتجاج أو التّشكيك فيما يقوم به حسني مبارك، واستمَرّوا بصرفِ أنظارِ النّاس إلى الحلولِ الفرديّةِ كالإكثارِ من الصلاةِ والصيامِ وإصلاحِ حياتِهمُ الخاصَّة.
عندما تناقشنا مع مَنْ راحوا ينساقون وراء هذه الحُججِ لم يكن نقاشنا سهلاً أبداً، فقد حاولنا تقديم حُججٍ منطقيّةٍ لهم، حُجَجٍ تستندُ إلى الأدلّةِ التّجريبيّةِ، ولكنّهم، في كلِّ مرّةٍ، كانوا يلجؤون إلى حججٍ من القرآن والحديث النّبويّ، أو إلى أقوالِ بعضٍ منَ المشايخِ أو الأئمّة."
ويرى جمال أنّ الحركاتِ الاسلاميّةَ كانت على أتمّ الاستعداد لتقديم تنازلاتٍ لنظام مبارك، فقادة هذه الحركات ليسوا قواعدها الشّعبيّة بالضّرورة، ويقول في ذلك:
"علينا أنْ نتذكّر أنَّ أحدَ المبادئ المركزية للحركةِ السّلفيّةِ وجماعةِ الإخوان المسلمونَ ما قبل سنة 2011 لم تكن تدعو للإطاحةِ بحسني مبارك وحكومته، بل أنّهم لم يؤمنوا بخَيارِ الثّورة، وكلاهما كانتا منافقتين للغاية لشخصِ حسني مبارك، ولم تكن لهما من غاياتٍ سوى إبرامِ صفقاتٍ معه، سعياً للانضمام إلى البرلمان أو التّمتّعِ بمزيدٍ من الحريّة في المساجد وأشياءَ من هذا القبيل."
دَفعَ الإصرارُ على أنّ الصّلاةَ، لا السّياسة، من شأنها أنْ تحلّ مشاكلَ مصر بجمال إلى إعادة النّظر في حماسه السّابقِ تجاه عَمرو خالد الّذي كان كثيراً ما كان يستشهد بآيةٍ من القرآن تقول: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم (سورة الرّعد: الآية 11)."
يرى جمال أنّ رسالة عمر خالد الأساسيّةَ هي ذاتُ رسالة الدّعاةِ التّقليديّينَ، رغم اختلاف أسلوبه الدّعويّ عن أسلوبهم، فيقول:
"وكان ثلثا حديثه يدور حول تطوير الذّات، ولكنّه كان يغلّف ذلك بالقيم الدينيّة والوحي الدّينيّ من التّاريخ الإسلاميّ، ولذلك كان يلقي خُطَباً تحفيزيّةً، ويروي قصصاً مُلهمة تحضّ على الجَدِّ في العمل، والاجتهاد في المدرسة، والتصدُّقِ على الفقراء.
وأنا غيرُ مقتنعٍ بأنّ هنالك إسلاماً "معتدلاً" وآخرَ "راديكاليّاً"، بل هنالك دُعاة مختلفون يحاولون استرضاء النّاس، وإظهارَ الدّين بطرقٍ معينةٍ بُغيةَ استيعابِ همومِ ومخاوفِ شريحةٍ معيّنةٍ من شرائحِ المجتمع.
فعندما كان عمرو خالد يخطبُ، على سبيل المثال، كان يتوجّه بخطابه ذاك إلى الطّبقات المتوسّطة والعليا في مصر ممّن تعلّم أبناؤهم في الجامعة الأميركيّة في القاهرة، أو ممّن عاشوا نمطَ حياةٍ شديد التّحرّر، فلو أخبرهم بضرورة الفصل بين الرّجال والنّساء، أو أنّ المرأة يجب ألّا تذهب إلى المدرسة أو العمل، ما كانوا ليستسيغوا الأمر."
وتفتّحتْ عينا جمال أكثر عندما انكبّ على دراسةِ الحضارةِ الغربيّةِ وفكرِها، وذلك في بداية دراسته في الجامعة، فيقول: "كانت تلك أولَّ مرّة أطّلع فيها على الكثيرٍ من النّصوص الأساسيِّة في الحضارة الإنسانيّة، كتاريخُ الإغريقِ والرّومانِ وثقافتِهِما، إضافةً إلى الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة، وثقافةِ عصر النّهضة وعصر التّنوير، وجميعِ أولئك المفكّرين." كما لاحظ أنّ معظم الكتّابِ الذين كانتْ أعمالهم تُدَرَّسُ في الجامعة كانوا في الغالب ممّن "يُشَهَّرُ بهم على منابرِ المساجدِ في خُطَبِ الجُمُعَة، أو في أي مناسبةٍ ينبري فيها واعظٌ ما للحديثِ عن الحضارةِ الغربيّةِ بوصفها حضارةً فاسدة؛ ويقول: "أدركتُ لدى قراءة هذه النّصوص من مصادرها المباشرة، والّتي طالما ندّد بها الدّعاةُ أنّها كانت تتكلّم عن الحريّة وتَقَدُّمِ البشريّة والعلمانيّةِ، وما هذه إلا مفاهيمُ طبيعيّةٌ جدّاً."
تداعى حكم حسني مبارك أخيراً، وذلك في شهر شباط/فبراير من العام 2011، بعد ما يقربُ من ثلاثينَ عاماً من الحكم، وتولى المجلسُ الأعلى للقوّات المسلّحةِ الحُكمَ بشكلٍ مؤقّت. وبعد بضعة أشهرٍ حازَ حزبُ الحريّة والعدالةِ التابعُ للإخوانِ المسلمينَ وحلفاؤهم على 235 مقعداً من أصلِ 508 في الانتخابات البرلمانيّة. كما فاز حزبُ النّورِ السّلفيُّ بـ 123 مقعداً، ممّا مَنَحَ الإسلاميّين أغلبيّةً ساحقةً، وتبعَ ذلك في شهر حزيران/يونيو 2012م انتخاباتٌ رئاسيةٌ فاز فيها محمّد مرسي مرشّحُ جماعةِ الإخوان المسلمين متفوقاً على منافسهِ الفريق أحمد شفيق، الجنرال السّابقِ وآخرُ رئيسِ وزراءٍ في عهد حسني مبارك.
لقد كانت تلك اللحظة لحظةً برز فيها الإسلاميّون، إلّا أنّ فوز مرسي لم يكنِ انتصاراً حقيقيّاً كما بدا للوهلة الأولى، فقد وضعتِ الجولةُ الأخيرةُ من الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الناخبينَ بين خيارين لا ثالثَ لهما، خيارين كان أحلاهما مُرّاً، إما الإخوان أو شخصيّةٌ من النّظام السّابق. ونتيجةً لذلك صوّتَ لمرسي الكثيرُ ممّنْ يكرهون شخصَ شفيق ويتطلّعون إلى التّغيير، لا حبّاً بجماعةِ الإخوان المسلمين. بدا مرسي في بادئ الأمر وكأنّه يعزو فوزه في الاستحقاق الانتخابيّ الرئاسيّ لمن صوّتوا له من خارج جماعةِ الإخوان المسلمين، قاعدةِ دعمه التّقليديّةِ، وفي خطاب ألقاه في ميدانِ التّحريرِ بعدَ إعلانِ النّتيجةِ ألمح مرسي إلى أنْ لا إقصاءَ في فترة حكمه، فقال:
"أقول للجميع، لكل فئات الشعب المصري، لأهلي وعشريتي في هذا اليوم المشهود، إنّني اليوم باختياركم بإرادتكم أنتم بعد فضل الله عز وجل، رئيسٌ لكلّ المصريّين بجميع فئاتهم، أينما كانوا، في الداخل أو في الخارج، في كل محافظات ومدن وقرى مصر، سأكون في هذا اليوم المشهود على مسافة واحدة من كلّ المصريّين، لكلٍّ قدره ومكانته، لا تمييز إلا بمقدار عطاء كلّ منهم لوطنه واحترامه للدّستور والقانون." 2
إلّا أنّ كلَّ ادّعاءاته بعدم الإقصاء سرعان ما تبخّرتْ، فَفَقَدَ الاسلاميّون الدّعم والتّأييد سريعاً، وبعد مُضيّ خمسة أشهرٍ فقط من تولّيه منصب الرّئاسة أصدر مرسي مرسوماً اعتبره الكثيرون أنه ينشد من خلاله منحَ نفسهِ صلاحيّات ديكتاتوريّة. ورغم ما قيل بأنّها كانت صلاحيّات مؤقّتة بانتظار انتخابات مجلس الشّعب الجديدة، كان هذا المرسوم في حقيقة الأمر يهدف إلى منع مواجهة أيٍّ من قراراته الرّئاسيّة اعتراضاً في المحاكم. وتعليقاً على ذلك كتبَ "بيتر بومونت Peter Beaumont" في صحيفة الغارديان البريطانيّة: "بعد حلّ مجلس الشّعب، أصبحتْ كلّ من السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة بين يدي مرسي، بل وزاد عليها - على ما يبدو- السّلطةَ القضائيّةَ، معتبراً نفسه فوق المحاكم، وعيّن نائباً عامّاً دون التّشاور مع أحد." 3 وبعد بضعة أسابيع نَشرت صحيفة إيكونيميست التّقييمَ التّالي لرئاسته:
"وَعدَ السيّد مرسي بتشكيلِ حكومةٍ قويّةٍ، وبتحسين الاقتصادِ، وبصياغةِ دستورٍ تقدميّ يُقَرّ بالتوافق، ويبدّد مخاوف جميع المصريّين، إلّا أنَّ المصريّين يشكون اليوم من ركودٍ في الاقتصاد، وحكومةٍ تشوبها الأخطاء، وتدهورٍ في حالِ الخدماتِ العامّةِ المنهارةِ أصلاً؛ كما واشتكى غير الإسلاميّين من عدم احتوائهم من قِبل الرّئيسِ الذي تجاهلَ دعوةً لحضور حفلِ تنصيبِ البابا القبطيّ الجديد زعيمِ الأقليةِ المسيحيّةِ الّتي تمثل 10٪ من سكّانِ مصر؛ كما تجاهل الإسلاميّون انسحابَ الأعضاءِ الليبراليّين والمسيحيّين من اللجنة المؤلّفة من 100 شخصٍ والمكلّفة بكتابة الدّستور، والتي سارعت بعد ذلك إلى طرحِ مشروعِ دستورٍ تضمَّنَ في اللحظةِ الأخيرةِ بنوداً وُضعت لاسترضاءٍ الجيش." 4
كان الدّستور الجديدُ بحاجةٍ إلى دعمٍ شعبيٍّ واسعٍ ليصبح أساساً لمصر ما بعد مبارك، إلّا أنّه كان - على العكسِ تماماً - سبباً للانقسام ومثارَ جدلٍ مستمرٍّ. تمّتِ الموافقةُ على الدّستور في استفتاءٍ شعبيٍّ بنسبة 64٪ من الأصوات وسْط شكاوىً حولَ عدمِ التّشاورِ السّليمِ، وهي نسبة أقلّ ممّا كان يرقى إليه طموحُ الإخوان المسلمون. كانت نسبةُ المشاركةِ في الاستفتاء الشعبيّ ضعيفةً نسبيّاً، فهي لم تتجاوز 33٪، أيْ أنّ حوالَي 20٪ فقط من النّاخبين المؤهّلينَ للتّصويتِ قد قال "نعم"، في حين أنَّ ثلاثَ محافظاتٍ من أصلِ 27 محافظةً في مصر صوتت بأغلبيتها "بلا"، كان أبرزَها محافظةُ القاهرة الّتي صوّتت بنسبة 57٪ تقريباً ضدَّ الدّستور.
وفي حزيران/يونيو 2013 عيَّن مرسي 17 محافظاً جديداً، وأكثرُ ما أثار الجدل اختيارُه لعادل الخيّاط لمنصبِ محافظِ الأُقصُر، المقصِدٌ السياحيٌّ الشّهيرٌ. ينتمي الخيّاطُ إلى الجناحِ السّياسيِّ للجماعةِ الإسلاميةِّ المتّهمةِ بالمسؤوليةِ عن مذبحةِ الأقصرِ الّتي وقعت 1997، والتي راح ضحيتَها 58 سائحاً وأربعةُ مصريين. بدا تعيين أحد أعضاء هذه الجماعة محافظاً للأقصرِ خطوةً استفزازيّةً للغاية رغم أنّها أعلنت نبذها للعنف إبّان الهجوم. كانت الجماعة تُعتبر معاديةً للسّياحةِ وللآثارِ الّتي تعود إلى ما قبلَ الإسلام، وقد نشرتْ منشوراً في موقعها على شبكة الانترنت تقول فيه: "بما أنَّ القرى السّياحيةَ فيها ما يغضبُ اللهَ كالخمور والقمار وغيرها من المحرّمات، فبناءُ هذه الفنادقِ والقرى هو إعانةً لأصحابها على الإثمِ والمعصية، وهذا ما لا يجوز السّماحُ به." وقد اعتَبرت صحيفةُ المصريُّ اليومَ أنّ اختيار مرسي للخيّاط كان لاسترضاء الجماعةِ "لأنها الطّرفُ الوحيدُ الذي يقف إلى جانب الإخوان ضدّ الشّعب." 5
وفي خطوةٍ مماثلة عيّن مرسي الإسلاميَّ علاء عبد العزيز وزيراً للثقافة، وهذا ما اعتبره الكثيرون خطوةً استفزازيّةً، وسرعان ما فَصلَ عبدَ العزيز رؤساءُ الهيئة المصريّة العامّةِ للكتابِ، وقطّاعُ الفنونِ الجميلة، ودارُ الأوبّرا المصريّة، والمكتبةُ الوطنيّةُ والأرشيفُ. 6
في تلك الأثناء، أدّتْ عدّة فضائحَ طالت شخصيّاتٍ إسلاميّةً إلى موجةٍ من السّخريةِ ضدّهم بسبب سلوكهم غير الوَرِع؛ فقد حاول العضوُ السّلفيُّ في البرلمان أنور البلكميّ أنْ يفسّرَ سببَ تضميدِ وجهِه بضمادةٍ كبيرةٍ بإبلاغِه الشّرطةِ أنّه تعرّضَ لهجومٍ من قبلِ بعضِ اللصوص الذين سرقوا منه 16000 دولاراً وحاولوا أنْ يسلبوه سيارتَه، لكنْ تبيّن لاحقاً أنّه اخترع هذه القصّة لإخفاء حقيقةِ أنّه أجرى عملية جراحيّة تجميليّة لأنفه. 7 أمّا السّياسيٌّ السّلفيٌّ الآخر علي ونيس فقد أُدينَ بارتكاب الفاحشة علناً، وذلك عندما ضبطته الشّرطةُ في سيارته المركونةِ "يداعبُ" طالبةً كانت جالسةً في حِجْرِه. 8
وبعد عامٍ من تولّيه سُدَّةَ الرّئاسةَ كأوّلِ رئيسٍ مصريٍّ منتخبٍ ديمقراطيّاً، اجتاحتْ مصرَ موجةٌ أخرى من الاحتجاجاتِ انتهت بأنّ أطاحَ الجيشُ المصريُّ بمرسي وتمّ وضعه في السّجن، وكان ذلك بدايةً لسلسلةِ جهودٍ متضافرةٍ ووحشيّة غالباً لقمعٍ جماعة الإخوان المسلمين، وقد لاقت تلك الجهود دعماً علنيّاً من بعضِ دولِ الخليجِ العربيّ أيضاً. مع سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، تمّ تقديمُ مرسي وشهورَ حكمِه الاثني عشر كبشَ فداءٍ لجميعِ مشاكلِ مصر، بما في ذلك ما اعتبره الكثيرون "مشكلة" الإلحاد.
قال الكاتب حلمي نمنم في مقابلةٍ على قناة دريم: "ظهرتْ حركة الإلحاد هذه لأول مرةٍ في تاريخ مصر خلال السّنة الّتي حكمَ فيها مرسي والإخوان المسلمون مصر، ووصفها على أنّها ردّةُ فعلٍ ضدّ سوء حكم جماعة الإخوان المسلمون الّتي دَفَعتْ عامّة المصريّين إلى المساواة بين الدّين والقمع، وبالتالي فإن ما نراه مع ظهور الإلحاد هو ردّ فعل ضد حكم الإخوان المسلمين الضعيف والفقير فكرياً وذو الأفكار والأفعال البالية والمهترئة حتى عندما نقارنه بالفقه والفكر الإسلامي المعاصر." 9
لكنّ خالد دياب، وهو صحفيّ ملحدٌ، كان قد كتب عن الإلحاد في مصر بما لا يتّفق مع هذا الرّأي حيث يقول: "بالنّسبة للأشخاص الذين تخلّوا عن دينهم أو الذين هم بلا دينٍ أصلاً، لا أعتقد أنّ لرئاسة مرسي أيّ دورٍ في تخلّيهم عن دينهم، فلو كان الأمر كذلك لمَا كان لمصر والعالم العربيّ تاريخِ طويل من الإلحاد، وقد تخَلَّى عدد كبير من هؤلاء عن دينهم قبل الثّورة بفترةٍ طويلةٍ، وبعضهم ملحد منذ فترة طويلة."
ويبدو أنّ الاهتمام بالإلحاد في وسائل الإعلام المصريّة قد تطوّر لأسبابٍ سياسيةٍ أبرزها الأداء المتشدّدِ للإسلاميينَ في أوّلِ انتخاباتٍ برلمانيّةٍ بعد حُكم مبارك، وزاد ذلك الاهتمامُ أكثر خلال الفترة الّتي أعقبت تولّي مرسي رئاسة مصر، وما تلا ذلك من الإطاحةِ به على يد الجيش المصريّ. يقول دياب:
"بدأت وسائلُ الإعلامِ بالتّعامل مع الإلحاد بشكلٍ مكثّفٍ، خصوصاً في الفترة الّتي أعقبتِ الإطاحةَ بمرسي، فبدت بذلك وكأنّها تحاول الإيحاء للناس بأنّ تفسيراتِ الإسلام تلك هي الّتي قادت النّاس إلى الكفر، ويبدو أنّ الحكومة استخدمت الإلحاد للترويج لفكرةِ أنّ مصر تمرّ بأزمة إيمان سَببُها الرئيس هو جماعة الإخوان المسلمين والتي كانت تبسّط الأمور إلى حدّها الأقصى، بل إلى درجة الغباء أحياناً."
لم أجد في أيٍّ من مقابلاتي الّتي أجريتها مع الملحدين أيَّ صلةٍ حقيقيّةٍ للإخوان بإلحاد هؤلاء، فرغم أنّ الإخوان لم يحاولوا اقناع هؤلاء "بالتوبة"، فقد كان إلحادهم في الغالب عمليةً فكريّةً أو روحيّةً، إذ كانت غايةُ عددٍ كبيرٍ منهم في بداية الأمر ترسيخُ إيمانِهم أو فهمُ دينهم بشكل أكبر."
لكنّ دياب يعتقد أنّ الإطاحة بمبارك وما تلا ذلك من تداعياتٍ قد خلَقتْ فرقاً كبيراً فيما يتعلق بالإيمان والكفر، إلّا أنّ ذلك لم يكن كما روّج له إعلاميو العسكر. ويتابع دياب حديثه قائلاً:
"جعلتْ الثورة المصريّة غيرَ المؤمنين أكثرَ جرأةً وانفتاحاً من ذي قبل، ودَفعتِ النّاس إلى الاستفسار عن كلّ شيءٍ حتى التّشكيك به، ممّا جعل المجتمعَ أكثر انفتاحاً على التّسامح مع الخلافات، وقد أصبح المصريون عموماً - حتى المؤمنون منهم - أكثر انفتاحاً من السابق على النُّظُم العقائديّة الأخرى، وأصبحوا الآن يتقبّلون فكرة عدم وجوب أنْ يكون النّاس جميعاً في مسارٍ واحد، فيمكن مثلاً أنْ تكون إنساناً طيّباً دون أنْ تكون مؤمناً، وفي المقابل يمكن أنْ تكون مؤمناً وسيّئاً في الوقت ذاته.
وأعتقدُ أنّ الإخوان المسلمون استفادوا قليلاً من هذه النّقطة، فقد صوّت الكثيرون لصالحهم وذلك لأنّهم رأَوا فيهمُ الرّجال الأتقياء والمنظّمين الجديرين بإدارة البلاد، غير أنّ إدراك النّاس أنّ مجرد كون الإنسان تقيّاً لا يعني أنّه إنسانٌ مؤهلٌ بالضرورة قد أنار عقولَ الكثير من النّاس، فعدم تمتعك بالتقوى لا يعني أنّك إنسان سيّء.
ومن العوامل الأخرى مواقفُ السّلفيّين والإخوان المسلمون حيث ظنّوا أنفسَهم الوحيدين الذين يدينون بالِإسلام الصحيح. لم يكن هذا سبباً ابتعاد النّاس عن الدّين، لكنّه كان كفيلاً بتوعيتهم أنّ أيّ إنسانٍ عُرضةٌ للاتّهام بالكفر؛ فحين يتّهم هؤلاء المتطرفون النّاس بالكفر- ولو كانوا مسلمين ملتزمين - سيبرز السؤال التّالي: إلى أين سينتهي ذلك؟" 10
إنّ إطلاق الأحكام ليس حِكراُ على الدٌّعاة أو الحركات الإسلاميّة بأيّ شكلٍ من الأشكال، فالصّحفيٌّ المصريّ مجدي عبد الهادي يشير إلى ما يُدعى "مجموعات القِصاصِ الصغيرة" المؤلفة من أفراد يرون أنّ من واجبهم فرضَ القانون، ومعاقبة المذنبين، لأنّ الدولة عاجزة عن ذلك برأيهم، ويشكّل هؤلاء مصدرَ إزعاجٍ يوميّ للمواطنين المصريّين الأقلّ التزاماً.
يصف عبد الهادي في منشورٍ على صفحته الشّخصيّة كيف أنّ محاسباً في مركزٍ لخدمة السيارات رفض كتابةَ اسمِ والده حين كان يقوم باستيفاءِ بياناته، وذلك لأنّ الطّريقة الّتي كُتب بها الاسم كانت غير إسلاميّة على حدّ زعمه. كما قام سائقُ سيّارةِ أجرةٍ بتأنيب صديقة عبد الهادي لخروجها حاسرةَ الرّأس، فأجابت بأنّها مسيحيّةٌ قبطية، إلّا أنّ السائق أصرّ على ضرورة ارتدائها للحجاب اقتداءً بالسيدة مريم العذراء. بالمناسبة، إنّ هذا النّوع من المضايقة كان تكتيكاً اعتمده مؤسّس حركة الإخوان المسلمون حسن البنّا في عشرينيات القرن العشرين، فقد اعتاد البنّا على مضايقة جيرانه بإرسال ملاحظات لا تحمل اسم كاتبها، وكان ينتابه الشكّ في كونهم مسلمين غير ملتزمين. ويضيف عبد الهادي قائلاً:
"لي جارٌ حوّلَ حديقة منزله إلى مسجدٍ صغير مزوّدٍ بمكبر صوت موصولٍ بأحدِ أعمدة الإنارة في الخارج، ثمّ ما لبث أنِ انضمّ إليه جارٌ آخرُ على مقربةٍ منه واضعاُ مُكبّريْ صوتٍ على سطح ِشقته باتجاهين مختلفين، وكان يمنح ابنهُ الصّغير أحياناً فرصة رفع الأذان في الحيّ في الساعة الرابعة فجراً ليذكّر النّاس أنّ "الصلاة خيرٌ من النوم".
لا أصدّق أنّ مسؤول الحي قد عجز عنِ اتّخاذ إجراءاتٍ بحقّهم بعد أنْ تقدّمتُ بشكوىً ضدّهم، إمّا لأنّ حالهُ حالُ جيراني، أيْ أنّه يعتقد أنّهم على صواب، والدولة على خطأ، أو أنّه لم يستطعِ الاهتمام بالموضوع أكثر من ذلك، أو ربما للسّببين معاً؛ إلّا أنّي عندما عاودت الاتّصال به لتذكيره بأنّ المشكلة لم تُحلّ، لاحظتُ أنّه كان قد ضَبطَ هاتفه المحمولَ على نغمةِ رنينٍ إسلاميّةٍ.
إنّ الأذان في واقعِ الأمرِ يُبثّ في الإذاعة المصريّة الرسميّة، وفي التلفزيون، وفي معظم الشّبكات الخاصّة، كما أنّ أوقات الصلاة تُنشر أيضاً في جميع الصّحف اليوميّة، إضافةً إلى احتواء الجوّال على برامجَ لأذان مسجّلٍ ومضبوطٍ بدقّةٍ وفق التّوقيت الصحيح، ولهذا الأمرِ معنى أكبرُ من كونه تذكيراً للناس بالصلاة، فهو أقرب إلى التّسلّط، ومحاولة السيطرة على الفضاء العامّ أقرب من تذكير النّاس بالصلاة." 11
ترافقتْ حملة القمع ضدّ جماعة الإخوان المسلمون مع بدء النظام العسكريّ بإثبات جدارته ومؤهلاته الدينيّة، فتمّ وضع دستور جديد بعد طرحه للاستفتاء الشعبيّ في كانون ثاني/يناير 2014، دستورٍ ظلّ فيه الإسلامُ دينَ الدولةِ وبقيتْ "نصوص الشّريعةُ الإسلاميّةُ المصدر الرئيس للتشريع"، على أنْ تُنظّم الأمور الشّخصيّة والدّينيّة للمسيحيّين واليهود وفقَ "شريعتهم" الخاصّة، كما نصّ الدّستور الجديد على أنّ "الأسرة هي نواة المجتمع قائمةً على أسسٍ دينيّةٍ وأخلاقيّةٍ ووطنيّة"، لكنّ هذه البنود من الدّستور لم تسر دون مواجهة التحديّاتٍ، فقد تقدّمت مجموعةُ من الملحدين المصريّين باعتراضات رسميّة، مطالبين بعدم شملهم في مشروع الدّستور ذاك، لكن دون جدوى. 12
غير أنّ موادّ أخرى في الدّستور نصّت على عدم التمييز بين النّاس على أساس الدّين أو المعتقد، وقد وصفَ الدّستور حرّيّة المعتقد "بالمطلقة" رغم أنّه ينصّ على أنّ ممارسة الأديان الإبراهيميّة يجب أنّ يكون خاضعاً للقانون (لكن لم تكن هنالك أيُّة إشارةٍ للأديان غيرِ الإبراهيميّة)، وللجميع "الحقّ في حرّيّة التّعبير عن رأيه سواءً بالقول أو الكتابة أو التصّوير أو أيّ وسيلةٍ من وسائل التّعبير والنّشر".13 وقد كَتبت رنا علم في صحيفة ديلي نيوز المصريّة أنّ هذه البنود من الدّستور فيها تناقضٌ، فتقول:
"كيف يمكن للمرء ضمانُ الحريّة عندما يقتصر الدّستور على الأديان الإبراهيميّة الثلاثة، متجاهلاً بذلك مليار ومائة مليون هندوسيّ على مستوى العالم، و488 مليون بوذيّاً، عداك عن أتباع الديانات الأخرى؟ كما يتجاهل هذا الدّستور أنّ عدمَ اعتناقِ أيّ دينٍ هو حرّيّة شخصيّة أيضاً.... فليس بمقدور المرء أنْ يكون ملحداً في مصر. ومن أغرب ما نجدهُ في هذا الدّستور كتابة الديانة على البطاقة الشّخصيّة، كما أنْ لا أحدَ يستطيع الزّواج مثلاً ما لم يكنْ من معتنقي إحدى الديانات الإبراهيميّةِ الثلاثة، فلا زواج مدنياً في مصر.
وفوق هذا وذاك، هنالك تمييز في الديانات الإبراهيميّة الثّلاث ضدّ الشيعة، فالحديث عن مكر الشيعة وضلالهم، وحاجة مصر إلى إيقاف مدّ الفكر الشّيعيّ هو الشّغلُ الشّاغلُ لوسائل الإعلام المصريّة المقروءةِ منها والمرئيّة. وفي خطوةٍ لافتةٍ منعت الحكومة المصريّة الحجّاجَ الشّيعةَ من دخول مصر عدّة مرّاتٍ حتى بعد سريان العمل بالدّستور "التّقدّميّ". 14
بَيد أنّ المسلمينَ الشِّيعةَ لم يكونوا الوحيدين الّذين أحسّوا بنتائجِ هذه الحريّة الجديدة المزعومة، فقد طالتْ مساجدَ السّنّةِ أيضاً، حيث بدأت الحكومة - وبعد أسبوعين فقط من بدء العمل بالدّستور الجديد - بتحديد مواضيعَ محدّدةٍ للخُطبة لكلّ صلاة جمعة، إلّا أنَّ بعض مشايخ المساجد الّتي تديرها الدّولة لم يرضخوا للقرار، فما لبثوا أنْ تلقَّوْا تهديداتٍ باتّخاذ إجراءاتٍ تأديبيّة بحقّهم. أمّا المساجدُ الّتي لا تخضع لسلطة الدّولة فقد تلقت تهديداتٍ بأنّ الحكومة ستضع يدها عليها. 15 وفي هذه الأثناء كان الجيش المصريّ يبني مسجداً جديداً ضخماً سُمِّيَ فيما بعدُ مسجد المشير الطنطاويّ قائدِ الجيشِ الذي أُقيلَ على يدِ مُرسي سنة 2012. 16 لم يكن ذلك في الحقيقة سوى استبدالٍ لتسلُّط الدّين بتسلّطٍ من نوعٍ آخر.
وفي شهر حزيرانَ/يونيو من سنة 2014 وبعد مضي أسبوعٍ على انتخاب السّيسي كرئيسٍ جديدٍ لمصر نشرتْ صحيفةُ الأهرام المصريّة مقالاً تحدثت فيه عن إعداد الحكومة خطّةً أمنيّةً "لمواجهة الإلحاد في مصر والإجهاز عليه". فبدت تلك الخطّةُ الّتي طوّرتها وزارة الشّباب والرّياضة - بحسب ما أوردته الصّحيفة - انعكاساً للرّؤية السّائدة بأنّ "الإلحادَ هو مشكلةُ الشّباب" وأنّه سيأخذ أبعاداً أكبرَ قد تشمل المجالاتِ "الدّينيّة والنّفسيّةَ والاجتماعيّةَ والتّربويّةَ". 17
نشرتْ صحيفة البديل الإلكترونيّة ومقرّها القاهرة قُبيل نهاية سنة 2013 على صفحتها الرّسمية فيلماً يُظهر ثمانية شُبّانٍ مصريّين يتحدثون عن إنكارهم لأيّ عقيدةٍ دينيّةٍ والتّحامل الذي واجهوه نتيجةً لذلك، حيث قال أحدهم: "ليس من السّهل على النّاس تقبُّل فكرة أنْ أكون بلا دين" ويقول آخر: "لو عَلمَ النّاس في مكان العمل بذلك الأمر لأصبحتُ بلا عملٍ". ويقول ثالثٌ وهو سلفيٌّ سابقٌ: "إنّ مطالبنا بسيطةٌ للغاية وأساسيّةٌ، فنحن لا نطمع إلا بالحصول على ذاتِ الحقوق الّتي يتمتّع بها أيّ مصريّ آخر". 18
وقد تمَّ ذِكرُ أسماءِ غير المؤمنين ممنْ ظهروا في الفيلم وهم ستّةُ رجالٍ وامرأتان كانت وجوههم ظاهرة للكاميرا باستثناءِ واحدٍ منهم. وقدّم هذا الفيديو الموجز في اثنتي عشرة دقيقةً آراءهم بأسلوبٍ واقعيٍّ دون التّعليق عليه. قد لا يكون لهذا الأمر أهميّةً كبيرةً في العديد من الدّول، لكنْ حين يتعلّق الأمر بوسائل الإعلام المصريّة المتحدّثة باللغة العربيّة فقد بدتْ تلك الحادثةُ أمراً غير مألوفٍ أبداً وغير مسبوق، فمِثلُ هذه الآراء ستُقابَلُ بالإدانة أو ستُواجَهُ من قِبَلِ المعارضين لها على أقلِّ تقدير، هذا إِنْ عُرِضَتْ أصلاً.
عندما حاولت الفضائيّة العربيّةHonest TV معالجةَ موضوع الإلحاد في برنامجٍ حواريٍّ مباشرٍ، أوضح مقدّم البرنامج محمّد موسى أنّ هذا البرنامج جزءٌ من الحرب على تلك "الأفكار الهدّامة" معتبراً الإلحادَ مؤامرةً خارجيةً. وقد قَبِل مصطفى زكريا، وهو ملحدٌ من الإسكندريّة، الظهور في هذا البرنامج في خطوةٍ شجاعة أو ربّما حمقاءَ منه، فأخبرَ المشاهدين أنْ ليس لديه أدنى رغبةٍ في "إهانة الأديان" إنّما كانت رغبته وببساطةٍ هي أنْ يتقّبله المجتمع المصريّ كملحد. لم تكن غاية زكريا نقد الدّين أو الإسلام. وأضاف أنّ على النّاس استيعابُ ضرورةِ بقاءِ المعتقداتِ الدينيّةِ أمراً شخصيّاً، وأنّنا بحاجةٍ لأنْ نعامل بعضنا البعض كبشر.
وردّاً على تصريحات زكريا، طالَبَ رجلُ الدّين المعروفُ محمّد علي جمعة باعتقاله وإعدامه. يقول هذا الشّيخ أنّ الإلحادَ "ظاهرةٌ جديدةٌ ابتكرها الصّهاينة". أمّا رئيس مديريّة أمن الإسكندريّة فقد قال للبرنامج أنّه كان بِصددِ تشكيل فرقةِ تدخّلٍ خاصّة من الضُّبّاط المتخصّصين في معالجة "جرائمَ" كهذه لاعتقال الملحدين. 19
وبشكل عامّ كانت النّقاشاتُ الّتي دارت على شاشات التّلفزيون المصريّ عن الإلحاد غيرَ مُنصِفةٍ. تقول أميرة نويرة، أستاذةُ الأدبِ الانكليزيِّ في جامعة الإسكندريّة:
"حتّى عندما يقولون أنّنا سنتحدث اليوم عن الإلحاد، فإنّهم يعتبرونها مشكلة، أو شيئاً ما يجب التّصدّي له، لا حقيقةً واقعة. وهذا يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ حديثهم عن المثليّة الجنسيّة على سبيل المثال. وحتّى إنْ تحدّثوا عنه فإنَّ في حديثهم هذا ما يشيرُ ضِمناً إلى ضرورة محاربته.
فكلّ ذلك النّقاش يميل إلى ضرورة اعتناق المرء عقيدةً محدّدةً ويحضُّ الشّبابَ على ضرورة الالتزامِ بمعتقداتهم. لم ألحظ أيّ عدلٍ حقيقيٍّ في التّعامل مع النّاس الذين لديهم شكوكٍ حول الدّين، فحتّى مُقدّمُ البرنامجِ مُنحازٌ. وأعتقد أنّهم يخشون أنْ يبدوا بنظر النّاس أنّهم يشجّعون الملحدين، لذا فإنّهم يسلكون الطّريق الآخر تأكيداً منهم على أنّهم لا يؤيدون الإلحاد." 20
عندما ظهر الملحدُ إسماعيل محمّد على قناة المحور الفضائيّةِ سنة 2013، كان عالمٌ من علماءِ جامعة الأِزهرِ يفسّر للمشاهدين سببِ اعتبارِ الإلحادِ جريمةً، فقال:
"أولاً لأنّه يتعارض مع قانون سيادة الدّولة.
والأمر الثاني هو أنّ الترويج للإلحاد لا ينجم عنه سوى إثارة الشّكوك بالأديان السّماويّة ممّا يُعتبر شكلاً من أشكال ازدراء الأديان.
وثالثاً... لأنّ التّضليلَ الفكريّ بحدِّ ذاته يعتبر جريمةً بحقّ العقل، وذلك حين تقوم بتضليل إنسانٍ بسيطٍ عمداً ... مُقنعاً إيّاه أنْ لا وجود لله وأنّ الحياةَ ماديّةٌ ... 21
بدا أنّ الغاية من هذا البرنامج مناقشة مطالب إسماعيل محمّد وعددٍ من الملحدين الآخرين بأنّ تُؤخذ حقوقهم بعين الاعتبار في مشروع الدّستور المصريّ الجديد. إلّا أنّ الحوار لم يكن مثمراً، فكلّما حاول محمّد الرّدَّ على رجل الدّين كانت مُقدِّمةُ البرنامج رِهام السّهلي تضغط عليه باستمرار ليشرح لها ما الّذي "جناه" من وراءِ الإلحاد:
-السّهلي: المعذرة محمّد، لكن أودُّ أنْ أسألك سؤالاً، ما الّذي جنيته من الإلحاد؟
-محمد: لا شيء على الإطلاق.
-السّهلي: يجب أنْ أسألك ...
-محمد: (مخاطباً مُقدِّمة البرنامج): وما الذي جنيتُموه من الدّين؟
-السّهلي: كلَّ شيء. حياتي كلُّها من الدّين.
-محمد: أولاً، أنا أيضاً استفدت من إلحادي في كلِّ شيءٍ، فأنا أتمتّع بإنسانيّةٍ رائعةٍ وجميلةٍ جدّاً....
-السّهلي: آه...
-محمد: ليست هذه هي القضيّة.
-السّهلي: تقصد أنّك استفدت من الإلحاد؟
-محمّد: إنّ الفكرة برمتها أنْ ثمّةَ نقاطُ التباسٍ يجب توضيحها قليلاً ونحن لا نفعل ذلك...
-السّهلي: ما الذي جنيته من الإلحاد؟
-محمّد: لم أجنِ شيئاً، ما من مكسبٍ في ذلك... كلُّ ما في الأمر أنّني تغيّرت. لقد اعتدت على الإيمان بشيءٍ معيّن، والآن أنا أُؤمن بشيءٍ آخر. أنا إنسانٌ مثلك وأنا مواطنٌ مصريٌّ مثلك وأنتمي إلى هذا المجتمع ولي حريّتي في التّعبير عن وُجهة نظري. فيما يتعلّق بالفكرة الّتي نروجها (للإلحاد)، فنحن لا نروِّج لشيءٍ على الإطلاق، ونحن لا نريد من النّاس أنْ يلحدوا ولا أنْ يتخلّوا عن دينهم، إنّما...
-السّهلي: هل أنت سعيدٌ بإلحادك محمّد؟
-محمد: المعذرة من فضلك، دعيني أتحدّث قليلاً...
-السّهلي: ممم...
-محمّد: الحديث عن الإلحاد واعتباره جريمةً وما إلى ذلك ... إذا كان الأمر كذلك فإنّ علينا مُصادرة العديد من كتب الفلاسفة في مكتباتنا وجامعاتنا. فالكثير من الفلاسفة الذين ندرس فلسفتهم بالإضافة إلى فلاسفة اليوم يقولون أشياءَ من هذا القبيل. فعندما ندرس مثلاً كتباً لــِ "ِنيتشه" وهو القائل بأنّ "الله ميت" – أعني على سبيل المثال فقط – هل يعني ذلك الآن ...
-السّهلي: (تقاطعه مذعورةً على ما يبدو من ذِكر أنّ الله ميِّت): أستغفر الله.
ثمّ تحوّل النّقاش إلى الحديث عن الدّستور المصريّ الجديد.
-السّهلي: ماذا تريد من الدّستور الجديد؟
-محمّد: نريد دولةً للمواطن المصريّ.
-السّهلي: هذا أوّل سؤالٍ تجيب عليه اليوم.
-محمّد: نعم سيدتي، نعم، فهذا السؤال مهمٌّ جدّاً، إنّه سؤالٌ عن تحديد مصير، فهو يتعلّق بمستقبلنا جميعاً...
-السّهلي: مصير؟ مصيرُ ماذا؟
-محمّد: نحن ندعو إلى دولةِ مواطنةٍ لا فرق فيها بين مسلمٍ ومسيحيٍّ، دولةٍ يستطيع فيها المسيحيُّ مثلاً أنْ يصبح رئيساً للجمهوريّة، دولةٍ ليس فيها .... لقد كان المسيحيّ ممنوعاً لفترةٍ محدّدةٍ من أنْ يصبح رئيساً للدّولة وأظنّ أنّ ذلك هو الحال حتّى الآن.
-السّهلي: المسيحيّون تُمثّلهم الكنيسة وهي الّتي تطالب بحقوقهم، ماذا عنك أنت؟ ماذا تريد؟
-محمّد: نحن ضدّ إعطاء الأفضليّة للكهنوت أو بعبارةٍ أصحّ نحن ضدّ تحكم...
-السّهلي: أنت كملحد، ماذا تريد من الدّستور؟
-محمّد: أنا أتحدّث كمواطنٍ مصريٍّ.
-السّهلي: آه...
-محمّد: أنا أتحدّث كمواطنٍ مصريٍّ.
-السّهلي: وكملحدٍ أيضاً.
-محمّد: لا سيدتي، أنا أتحدّث كمواطنٍ مصريّ.
-السّهلي: أنت كملحدٍ طالبت بأنْ يُسمع صوتك، لذا ما الاختلاف الذي لمسته وتريد اقتراحه لبقيّة المصريّين وجميعُهم الآن مُمَثّلون في الدّستور الجديد؟
-محمّد: لا يا سيدتي، أنا أتحدّث كمواطنٍ مصريّ، ... أنا لست مهتمّاً بعقيدة أحد، أنا لست مهتمّاً بعقيدتك.
-السّهلي: أنت كملحدٍ، طالبت كثيراً بأنْ يُسمعَ صوتك، لذا ما الاختلاف الذي لمسته وتريد اقتراحه على بقيّة المصريّين وجميعهم الآن مُمَثّلون في الدّستور الجديد؟
-محمّد: سبقَ لي أنْ قلت لكِ، وهذا مثالٌ واضحٌ وبسيط، أنْ ليس من حقِّ المسيحيّ التّرشّح لرئاسة الجمهوريّة.
أَحبط سيرُ النّقاش محمد فاشتكى أنّه لم يُعطَ الفرصة للحديث ثمّ اعتذرَ إلى المشاهدين وإلى "جميع أصدقائه" مما أتاح الفرصة للسّهلي لتكرار مقولة أنّ الإلحاد مؤامرة خارجيّة وسألتْ محمّد إنْ كان هؤلاء الأصدقاء خارج مصر.
-محمد: لا سيّدتي، نحن مصريّون، كلّنا مصريون، اسمحي لي...
-السّهلي: ألا تتواصل مع أحدٍ في الخارج؟
-محمّد: لا سيدتي نحن شبّان مصريّون، وأعني بذلك أنّنا لسنا عملاء أو جواسيس.
-السّهلي: لم يذكر أحدٌ أنّكم جواسيس، لكن دعونا نأخذ فاصلاً قصيراً.
حتّى المشاهدون الذين اتصلوا بالبرنامج صبُّوا جامَ غضبهم على محمّد فقد اتّهمه البعض بالتّسبب في "تصديع" الصّفّ الاجتماعيّ و/أو التّورّط بمؤامرةٍ خارجيّةٍ، رغم أنّ أحدهم اتّهم محمداً بأنّه كان جزءاً من خطة شرّيرة يحيكها الإخوان المسلمون. وكان من ضمن المتّصلين بالبرنامج أمّ محمّد والّتي عَزَتْ سبب إلحاده إلى "شِدة تعلّقه بالكمبيوتر" وأضافت أنّ إخوته غضبوا كثيراً عندما شاهدوا البرنامج.
غير أنّ ظهور محمّد على شاشة التلفزيون لم يكن كارثةً في نظر الجميع، فقد أشار الصّحفيّ والنّاشط الحقوقيّ البارز هشام قاسم إلى أنّ مجرّد السّماح له بالظّهور كان اختراقاً فريداً من نوعه، فيقول: "ذُهلت عندما شاهدت البرنامج حيث أنّي لم أتوقّع رؤية شيءٍ من هذا القبيل في حياتي."
كما عُرضت مقابلة مع أيمن رمزي نخلة على قناة النّهار الفضائية، 22 وهو أمين مكتبةٍ في إحدى الكلّيات، كان قد ترك ديانته المسيحية. أجرت المقابلةَ معه رهام سعيد الّتي مثلها مثل رهام السّهلي لم تترك له المجال ليشرح وجهة نظره. ودار بينهما الحوار التّالي:
-سعيد: ما هو دينك؟
-نخلة: أنا من خلفية مسيحية.
-سعيد: ماذا تقصد "بالخلفية"؟
-نخلة: أعني أنّي كنت مسيحياً، أمّا الآن فأنا إنسان. عندما وُلدت كان أبواي مسيحيين، لذا فقد وضعوا الديانة "المسيحية" على شهادة ولادتي. بقيت مسيحياً لعدّة سنوات لكنّي الآن إنسان.
-سعيد: لم يقل أحدٌ أنك حيوان...(تضحك).
-نخلة: لا أضع الدّين ضمن دائرة اهتماماتي فهو ليس مصدر قلقٍ أو اهتمامٍ بالسبة لي...
-سعيد: ألا تؤمن بالله؟
-نخلة: لا يعنيني ذلك. كل ما يهمّني هو الإنسان.
-سعيد: تقصد أنّي أندرج ضمن دائرة اهتماماتك؟
-نخلة: بالتّأكيد نعم ...
استمرّت المقابلة وهو متشبِّثٌ بفكرة أنّ الألوهيّة والأديان "ليست في دائرة اهتماماته"، وأنّ همّه الوحيد هو كيف له أنْ يعيش كإنسانٍ محترم، ما دفع السيدة رهام سعيد إلى تكرار سؤالها "من خلق الإنسان؟" مشيرةً إلى أنّه "قد اختلطت عليه الأمور" بسب تعمّقه في قراءة الكتب.
-سعيد: أريد أنْ أعرف ما الذي جعلك تُقدم على اتخاذ قرارٍ كهذا؟
-نخلة: كان ذلك تطوّراً فكريّاً.
-سعيد: أم أنّه كان نتيجةً لجلوسك في المكتبة وقراءتك للكتب؟
-نخلة: لقد قرأت آلاف الكتب.
-سعيد: من الذي ضلّلك إذاً؟
-نخلة: لست ضالّاً، وإنّما أعتقد أنّ تطوري الفكري قد ساقني إلى فعل هذا.
-سعيد: ألم تخف؟
-نخلة: وممّ أخاف؟
-سعيد: تخيّل أنّ هنالك نسبة 1% أنّك مخطئ؟
-نخلة: إنّه قراري الشّخصيّ.
-سعيد: (تكمل سؤالها): ...ونزلت إلى القبر واكتشفت أنّ الله حقٌّ؟
-نخلة: إنّه قراري الشّخصيّ، ولا يحقُّ لأحدٍ أنْ يفرض الموت عليّ أو أنْ يعتبرني مخطئاً ومن ثمّ يقتلني لأنّه ليس هو من منحني الحياة.
-سعيد: من منحك الحياة إذاً؟
-نخلة: أبواي ولداني.
-سعيد: ومن خلق أبويك؟
-نخلة: آباؤهم وأجدادهم.
-سعيد: أشعر برغبةٍ في البكاء الآن.
-نخلة: ولِمَ تبكين؟ لا، لا تبكي.
-سعيد: لأنّني تأثّرت بكلامك، ألديك الجرأة حقّاً لتقول ذلك؟
-نخلة: أنا لا أخشى الغد أو المستقبل.
-سعيد: ولكن ألا تخشى أنْ يعتبرك النّاس كافراً؟ ألا تُقلقك هذه الكلمة؟
وبعد بضعة أسابيع، أعلن وزير الثّقافة طرد نخلة من عمله وأحاله إلى النائب العامّ بسبب نشره أفكاراً "إلحاديةً وشاذّة في المجتمع المصريّ". اتُّهم بعدها "بإنكار وجود الله وإنكار الأديان السماوية والأنبياء والكتب المقدّسة بطرقٍ مباشرةٍ عبر المحطّات الفضائية وغير مباشرةٍ داخل المؤسسة التعليمية." 23
حتّى عندما تحاول البرامج التلفزيونيّة تسليط الضّوء على هذه المواضيع، تكون هذه البرامج مرتّبة بحيث تميل الكفّة لصالح الإيمان. مُعز مسعود هو داعية يظهر في التلفاز ومُستعدٌّ لمناقشة المُشكّكين بالدين بأسلوبٍ نقديّ أقلّ على عكس الكثير من الدّعاة التقليديين، وهو شابٌّ عصريّ ومنفتح في مُقتبل العمر نسبياً فهو من مواليد 1978، وغالب حديثه يدور عن رحمة الله بعباده أكثر من الحديث عن العقاب ويؤكد على الجانب الرّوحيّ للإسلام.
يبدو مسعود وكأنّه قد أدرك ثلاث نقاطٍ بسيطة لم يُدركها غيرهُ من الدُّعاة ورجالِ الدّين التقليديين، النقطة الأولى هي أنّه ليس من الضروري أنْ يخيف عقابُ الله المشكّكين فيخضِعَهمْ، بل ربّما يزيد من شكوكهم. النقطة الثّانية هي أنّ المشككين غالباً ما يميلون إلى الاستياء عندما تخبرهم أنّه من العيب أنْ يسألوا أسئلة كهذه أو أنّهم مُلزمون بضرورة الثقة بوجود الله وأنّ عليهم التوقّف عن شكّهم. أمّا النّقطة الثالثة فهي أنّ أولئك النّاس الذين تخلوا عن دينهم الرسمي في توقٍ دائمٍ للجانب "الروحي" في حياتهم.
لم تكنِ الشّكوكُ في الدّين بنظر مسعود عائدةً إلى وساوسِ الشّيطان أو نتيجةً لمؤامرة خارجيّة كما كان يظنّها البعض، فهي شكوك يمكن تفهّمها وإنْ كانت خاطئة ويجب مواجهتها بدلاً من إنكارها على الفور. وبهذه الطّريقة الذّكيّة قدّم مسعود برنامجاً بعنوان "رحلة اليقين" على شاشة التّلفزيون المصريّ خلال شهر رمضان سنة 2012. كانت مدّة كل عرض 15 دقيقةً وناقش فيها مسعود أفكار "ملحدين بارزين" من أمثال نيتشه وداروين ودوكينز وكان يهدف من وراء ذلك إلى تفنيد هذه الأفكار. كَتبَ محمّد خير في تعليق له نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانيّة:
"يميل مسعود إلى المزج بين العلماءٍ والفلاسفةٍ كداروين ونيتشه من جهة -والذين لم يكن الإلحاد وحده في نظرهم قضيّة ذاتِ أهمية - وبين شخصيّاتٍ أعلنت تأييدها للإلحاد طوالَ مسيرة حياتهم أمثال "ريتشارد دوكينز" صاحب كتاب "وهم الإله" و"السّير أنطوني فلو Anthony Flew" من جهة أخرى.
دَفعَ هذا العرضَ التلفزيونيّ إلى تفسير الإلحاد في غالب الأمر على أنّه نتيجةٌ حتميةٌ لاضطراباتٍ نفسية، كما هي حالُ داروين حينما فقد ابنته الشابة، أو أنّه يُسبب مشاكلَ نفسيةٍ، وهذه حالُ نيتشه الذي أصيب بانهيارٌ عقليٌّ في أواخر سنيّ عمره.
إلّا أنّ الصّفة الإيجابيّة الّتي ميّزت برنامج مسعود التلفزيونيّ عن غيره هي أنّه لم يكرّر الأخطاء الشّائعة كنظريّة التّطور الّتي تزعمُ أنّ الإنسان ينحدر من سلالة القردة.
كما أنّ مسعود لم يدَّعِ أيضاً استناده إلى خلفياتٍ علميّة تؤهله إلى مناقشة نظرية التطور، فقد كان صادقاً مع مشاهديه عندما قال بأنّ داروين لم يصطدم مباشرةً مع المعتقدات الأساسية للدين المسيحي.
والسِمة الأبرز الّتي ميّزت هذا البرنامج عن غيره قد تكون في ذلك التفسير "المنطقي" النّادر في عالَمِ البرامج الدينية، بالإضافة إلى حقيقة أنّه يسمح بمواجهة الحجج بدلاً من إنكارها كما كان يحدث في الماضي." 24
يُقال أنّ فيلم "الملحد" الذي عُرض سنة 2014 هو أوّل فيلمٍ يسلّط الضّوء على موضوع الإلحاد في تاريخ السّينما المصريّة، وقد أثار الفيلمُ جدلاً واسعاً حتّى أثناء إعداده وذلك بسبب عنوانه بشكلٍ رئيسٍ. إلّا أنّ مُخرج الفيلم نادر سيف الدّين أكّد في مقابلةٍ له مع صحيفة الأهرام أنّ الفيلم لا يؤيد الإلحاد وإنّما سيناقش "مشكلةً اجتماعيّةً محوريّة نعاني منها جميعا في مجتمعاتنا اليوم". 25 وقد أسهبَ في شرحِ أهدافِ الفيلم في مقابلةٍ له على قناة العربيّة جاء فيها:
"ولدى سؤاله عن سبب تعاطيه مع قضيّةٍ قد تُحدث الكثير من المشاكل لمجرّد تسمية الفيلم بهذا الاسم، أجاب سيف الدّين بأنّه قد لاحظ ازدياد عدد الملحدين في مصر وأنّهم بدأوا يطالبون بحقوقهم مما جعله يشعر بضرورة إنتاج فيلمٍ يعالجُ هذه المشكلة ويسلِّط الضّوء على المفاهيم الخاطئة الّتي يتبناها الملحدون." 26
وافق شيوخُ الأزهر في نهاية المطاف على عرض فيلم "الملحد" بعد أنْ تشاوروا في وقتٍ سابقٍ في نص الفيلم، كما وافق جهاز الرقابة الحكوميّة على عرضه، إلّا أنّ مصير ذلك الفيلم كان الفشلَ ويُعزى ذلك على ما يبدو إلى طبيعة عنوانه المثيرة للجدل. وقد تردّدت دور السينما المصريّة في عرضه خوفاً من إثارة الاحتجاجات الشعبية وأشارت التقارير إلى أنّه لم يُنتج سوى 15 نسخةً فقط من هذا الفيلم. 27 يحكي الفيلم قصة داعية مسلم وابنه الملحد واسمه نادر. تضيف المقالة الّتي نُشرت في موقع العربية: "كان ذلك الشيخ مُقدماً لبرنامجٍ دينيٍّ أيضاً على إحدى القنوات الفضائية، إلّا أنّه أصبح أُضحوكةَ المشاهدين بعدما كُشفت حقيقة مُعتقد ابنه، فقد أصبح يتلقّى مكالماتٍ على الهواء من أُناسٍ اتّصلوا به ليخبروه أنّه ليس أهلاً لأن يكون داعيةً بسبب عجزه عن إقناع ابنه بأنْ يؤمن بالله." 28 غير أنّ رسالة الفيلم - بعيداً عن الدّعوة إلى الإلحاد - توحي بأنّ الإلحاد قد يكون مُهلكاً، حيث يموت والد نادر لعدم قدرته على تحمّل هولِ أنْ يكون ابنه ملحداً.
وفي حين كانت وسائل الإعلام النّاطقة بالعربيّة تميل إلى التهويل من موضوعَ الإلحاد وتغذّي التّحامل والتمييز ضدّه، كانت وسائلُ الإعلامِ المصريّة الناطقة باللغة الإنكليزية تطرق الموضوع بطريقة أكثر واقعية وتوازناً، وكانت الموادّ المنشورة باللغة الإنكليزية موجّهةَ إلى جمهور بعينه وغالباً ما كانت تمرّ دون ملاحظة الجماهير لها، مما منح النّاشرين هامش حرية أكبر عند التّطرّق إلى مواضيع حسّاسة كهذه.
فعلى سبيل المثال انتقدت صحيفة Egypt Independent في إحدى مقالاتها محاكمة ألبير صابر الذي أدين بالتّجديف (الكفر) و"ازدراء الأديان،" 29 في حين عالجت مقالاتٌ أخرى ظاهرة الإلحاد بصراحةً أكبر والمشاكل الّتي قد يواجهها غير المؤمنين، وقد استهلت إحدى المقالات عن المرتدين عن المسيحية والإسلام بالقول:
"يقول الملحدون في بلدٍ متديّن كمصر أنّ أعدادهم في تزايدٍ مستمرّ رغم كون الإلحاد أمراً محظوراً وممقوتاً بشدّةٍ، إلّا أنّ أيّ ظهورٍ لأيّة حركةٍ جديدة كان يُقابل بِردِّ فعلٍ ثقافيٍّ. والتقت الصّحيفة بـِخمسة عشر ملحداً معظمهم في العشرينيات من العمر في مقهىً في وسط القاهرة في محاولةٍ منها لفهم المِحن الّتي يواجهها ملحدو مصر."
وذهبت الصحيفة إلى القول أنّه "أنْ تكون شابّاً وملحداً ربما يكون أمراً صعباً جدّاً وبالأخصّ للذين ما زالوا يعتمدون على الأهل فيما يتعلق بالمصروف الشخصيّ ويخافون من البوح بمعتقداتهم الحقيقية والّتي قد تؤدي إلى عزلهم عن الأسرة وحرمانهم من المصروف المالي. 30
كانت تلك المقابلات من اختصاص الصّحفي منير أديب الّذي ألّف كتباً باللغة العربية تحدّث فيه عن الإلحاد في مصر. وبينما يعرض النقاشات الّتي تدور بين المؤمنين والملحدين ويستعرض "العلاقة بين التمرد السياسي والتمرّد الديني"، إلّا أنّه يوضّح أنّه لا يشجع الإلحاد. كما يعرض الكتاب أيضاً "تفنيداً علميّاً ودينياً" لأفكار الملحدين ويُقدّم أمثلةً واضحةً عن مُشكّكين أصبحوا مؤمنين في نهاية المطاف. 31
وبحلول نهاية سنة 2013 قامت صحيفة ديلي نيوز مصر بنشر قائمة تضمّ المقالات الأربع عشرة الأكثر قراءةً لذلك العام على صفحتها على الانترنت. تطرّق ثلاثة ٌمن هذه المقالات لموضوع الإلحاد على وجه التّحديد. كان أحد هذه المقالات يحمل عنوان "جيلٌ من الملحدين" وكتبته أمٌّ معنيّةٌ بالأمر كون ابنها البالغ من العمر اثني عشر ربيعاً" بدأ فجأةً يستخفّ برجال الدين، وقد اتّهمت فيه رجال الدّين بتشويه اسم الإسلام حيث تقول:
"رغم أنّني لست مثالاً للمرأة المتدينة لكن يؤلمني رؤية مثل هذا الازدراء يصدر من ابني تجاه أولئك الذين يُفترَضُ أنْ يكونوا مُقدّسين. والأسوأ من هذا وذاك أنّني لم أستطعِ الدّفاع عن أولئك المشايخ كوني لا أريد له أنْ يستمع إلى تلك الأشياء البالغة القبح الّتي يتفوّه بها هؤلاء الرّجال. ونحن اليوم ممزّقون بين حقيقة ديننا وبين الرّسالة الّتي جاء بها أولئك الرّجال المُلتحون، والسّؤال هو ماذا يُفترض بنا أنْ نقول لأطفالنا؟" 32
وتطرّق مقالٌ آخر إلى مناقشة قضيّة عضوٍ سابقٍ في جماعة الإخوان المسلمون وقد أعلن في مُدوّنته على الإنترنت أنّ الدّين عندهُ أصبح "مُعلّقاً". وَوَرد في المقال أنّ الشّباب "يشعرون بالعزلة بسبب خُطَبِ الجمعة الجوفاء والّتي تشير بطريقةً أو بأخرى إلى أنّ جميع غير المسلمين هم زنادقةٌ وليسوا بمصريّين." 33
فإلقاء الّلوم على التّطرّف أو المشايخ الغافلين لارتفاع نسبة الإلحاد إنّما يخدم غاياتٍ سياسيةً أو ربّما لِطمأنة المؤمنين الأكثر اعتدالاً إلى حدّ ما، وقد يكون التّطرّف الدّينيّ عاملاً في ذلك، لكن تخيّل أنْ تختفي مشكلة الإلحاد إذا ما تمّ التّعامل مع التّطرّف ما هو إلّا خداعٌ للذات وفشلٌ في الاعتراف باعتراضات الملحدين على الدّين بحدِّ ذاته. وقد تناول المُغترب المصريّ خالد دياب هذه القضايا المحوريّة في مقال بعنوان "اعترافات كافرٍ مصريّ" حيث أنّ الشكوك الّتي راودته وهو طفل حول سبب ذهاب أصدقائهم الإنكليز إلى النّار لدى وفاتهم قد تطوّرتْ وتحوّلتْ إلى أسئلة مختلفة حول وضع المرأة والميول الجنسيّ فضلاً عن الأخطاء العلميًة والتّناقضاتِ الموجودة في القرآن." ويضيف دياب:
"ناهيكَ عن الأسئلة الميتافيزيقيّة والفلسفيّة من قبيل: لماذا من شأن الله العادل والرّحيم أن يخلق كائناً مَعيباً ثم يُخضعه إلى الامتحان، في الوقت الذي يعلم فيه - وهو العالم بكل شيء - عاقبتَه مسبقاً؟ ولا أخصّ بهذا الإسلام وحده بالتّأكيد فالسّؤال ينطبق على بقيّة الأديان." 34
وقال دياب في مقالته أنّ هذه هي المرّة الأولى الّتي يفصح فيها عن إلحاده في جريدةٍ مصريّةٍ وأنه كان يتوقع أنّ عمله سيُغضب بعض القُرّاء، حيث يقول: "أنا لا أرغب في إهانة مُعتقدات النّاس الخاصّة بهم، لكنّي أؤمن بأنّ ليَ الحقّ في التّعبير عن قناعاتي القلبيّة الخاصّة الّتي توصّلتُ إليها بعد سنواتٍ من الشكّ والتّساؤل والتّردّد والّتفكير." ومن المثير للاهتمام رغم ذلك كلّه أنّه لم يكن هنالك أيّ تداعيات أو ردود فعل غير مرغوب فيها، وربّما مردُّ ذلك أنّ نبرة المقال كانت مُنتقاةً بعنايةٍ وغيرُ استفزازيّة. ولدى سؤاله فيما بعد عن الاستجابة لمقالته، أجاب دياب:
"بالمجمل كان ردّ الفعل إيجابيّاً، فقد تمّ قراءة المقال على نطاقٍ واسع وأثار الكثير من الفضول والاهتمام. وبالنّظر إلى كلّ ذلك الضّجيج حول مواقف المسلمين تجاه الإلحاد والرّدّة، بدتْ ردّة الفعل العامّة وكأنّ النّاس تقول أنّنا حتى ولو لم نكن نوافقك الرّأي إلّا أنّنا نتقبّل حقّك في التّعبير عن أرائك، بل إنّ المقالة مكّنتني من التّواصل مع المجتمع المتنامي من غير المؤمنين." 35
قد تكون تلك إشارةً على تغير الزمن، أو أنّ دياب كان محظوظاً كون أنّ أحداً لم يشتكِ منه. لقد وسّعتْ أحداث العام 2011 الآفاقَ أمام غير المؤمنين، لكن القانون ما يزال يشكّل تقييداً لما يرغبون بالتّعبير عنه، وما زال أمام مصر طريقٌ طويلٌ حتّى يتمكّن الملحدون من تحقيق حُلمهم بأنْ يتمّ اعتبارهم أناساً عقلانيّين وطبيعيّين.
الإشعار القانوني
تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com
ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا: