Arabs Without God: Chapter 1

الفصل السادس: امتيازات الدِّين
الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً
الفصل الثامن: الحقّ في الإساءة
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
المصادر والملاحظات
مقدمة
الفصل الأول: إنكار الله وهدمُ المجتمع
الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي
الفصل الثالث: كتابُ الله
الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم
الفصل الخامس: الإلحاد والجنس

الجزء الأول: طرقٌ إلى الكفر

الفصل الأول: إنكار الله وتدمير المجتمع

في بَلدةِ قلقيلية الفلسطينية، خطرت فِكرَةٌ غريبةٌ لوليد الحسيني، وهو شابُّ في الخامسة والعشرين من عمره حين رأى أنّ الوقت قد حان لأن يكون لله صفحة خاصة به على موقع "فيسبوك"، فأنشأ تلك الصفحة وأطلق عليها تسمية "أنا الله"، وأعلن فيها ساخراً أنّه الله، وأنه في قادمِ الأيامِ سوف يتواصل مباشرةً مع عباده من خلال موقع "فيسبوك"؛ لأن قروناً من الزمن مرّت دونَ أن تصل رسالته رغم أنه أرسل رُسلاً لذلك.

إحدى الإرشاداتِ الإلهيةِ التخيليةِ التي كتبها ونشرها الحسيني بأسلوب مشابه لأسلوب القرآن تحرمُ شرب الويسكي ممزوجاً بالبيبسي، حيث قال أنّ "الله" أمرهم أنْ يمزجوا الويسكي بالماء بدلاً من البيبسي، وفي منشور آخر للحسيني، ينَصَحُ الله عباده بتعاطي الحشيش.

لم تكنِ السلطات الفلسطينية مسرورةً بنشاط الحسيني الحائز على شهادة جامعية من قسم تقنيّات الاتصالات، وبعد أيام قليلة من نشره تلك المقولات الساخرة تم اعتقاله بينما كان يلعب الورق في أحد المقاهي حيث دخل عنصران من الشرطة السرية إلى المقهى واعتقلاه، ووُضع في السجن عدة أشهر، قضى جزءاً منها في الحبس الانفرادي. يعيش الحسيني الآن في منفاه في فرنسا بعيداً عن عائلته وأصدقائه.

وقد واجه آخرون مصيراً مشابهاً لمصير الحسيني بسبب منشورات معادية للدين نشروها على شبكة الإنترنت؛ أحد هؤلاء هو ألبير صابر، وهو مصري سافر إلى سويسرا على إثر زجّه في السجن بتهمة "التهجم على الإسلام والمسيحية، وازدراء الشعائر والمقدسات الدينية والسخرية منها فضلاً عن إهانة الأنبياء،" بعد تخليه عن الديانة المسيحية مفضّلاً الإلحاد.

وهناك أيضاً الطالب المغربي قاسم الغزالي الذي كان في المدرسة الثانوية وراح ينشر منشورات عن الإلحاد على شبكة الإنترنت دون الكشف عن هويته؛ إلى أنْ تم كشفه عن طريق مُدرسِّهِ الذي وجّه له تهمة "زعزعة الدين"؛ مما دفع بزملائه إلى قذفه بالحجارة؛ كما أنّ إمام القريةِ منعه من دخول المسجد، فقرر قاسم التواريَ عن الأنظار إلى أنْ حصل على اللجوء في سويسرا، مثله في ذلك مثل ألبير صابر.

أمّا الحسيني، فتُعتَبَرُ حالةُ تحولِه إلى الإلحاد حالةً نموذجية بجميع المقاييس، فقد وُلِدَ في فلسطين لعائلة كانت "مسلمة عادية"، على حد وصفه؛ لكنّه أخذ يطرح في المدرسةِ الإعداديةِ أسئلةً عديدة من قبيل "هل نحن مخيّرون في تصرفاتنا أم مسيّرون؟" فوجد الحسيني نفسه ودون قصد أمام مسألة حرية الإرادة والقضاء والقدر، وهي المسألة الذي شغلت بالَ علماء الدين لقرون طويلة، إنْ كان الله كُلِّيَّ المعرفة فإنه يستطيع التنبؤ بالأعمال الشريرة قبل حدوثها، وإن كان كُلِّيَّ القدرة، فإنه يستطيع أن يمنعها من الحدوث؛ إذاً، إنْ كان الخير صفةَ الله، فَلِمَ يرضى الشرَّ لخَلْقِهِ ثم يعاقبُهم عليه؟ وتقول إحدى آيات القرآن: "وما تشاؤون إلا أنْ يشاء الله رب العالمين (سورة التكوير: الآية 29).

طرح الحسيني تساؤلاته أمام مُعَلِّمِهِ في المدرسة، فكان الجواب أنْ طرحَ مثل هذه الأسئلة حرام. يقول الحسيني: "لم أحصل على إجابة عن أسئلتي، فذهبت إلى إمام البلدة وسألته السؤال ذاته، لكنني حصلت منه على الإجابة وردة الفعل ذاتهما، وهي: "لا يجوز طرح مثل هذه الأسئلة." تعتبر هذه الإجابة هي الشائعة في المجتمعات السلطويّة؛ كما أنّ عرباً كثيرين ممن تركوا الدين سمعوا الإجابة ذاتها، وهذا ما دفعهم للبحث عن الإجابة، وكانت هي العامل الرئيس في دفع بعض الشباب المسلم أنْ يسلك طريق الإلحاد.

ازداد فضول "الحسيني" يوماً بعد يومٍ، فراحَ يُفتِّشُ عن الإجابة باحثاً في الكتب؛ يقول الحسيني:

"ذهبتُ إلى مكتبةِ المدرسةِ، وإلى المكتبةِ العامةِ الموجودةِ في مدينتي التي بإمكانك أنْ تجد فيها الكثير من الكتب الدينية، ولكن يستحيل العثور على أي كتاب ينتقد الدين. لقد قضيتُ نحو أربعةِ أعوامٍ في البحث، وكلما تعمقت بشكل أكبر كلما اكتشفتُ أموراً لم أكن أعرفها من قبل، وبدأتُ بالابتعاد عن الدين شيئاً فشيئاً حتى تركتُ الإسلام في السنةِ الأولى من الجامعة."1

ربما لبساطته، لم يجد "الحسيني" أيَّ شيءٍ غريبٍ في القرار الذي اْتخذه، حيث كان على درايةٍ أنّ كثيراً من الكتاب الفلسطينيين المشهورين طرحوا أسئلةً تخصُّ الدين من بينهم إدوارد سعيد (الذي أعلن بصراحة أنه لا أدريّ)، والشاعر محمود درويش والروائي غسان كنفاني (الذي كان عضواً بارزاً في الجبهةِ العامةِ لِتحرير فلسطين)، لكن عندما أخبر الحسيني زملاءَهُ في الجامعة أنه ترك الإسلام، شعر بالصدمة إزاء ردة فعلهم حيث قالوا له: "هذا لا يجوز، هذا حرام، افعل ما تشاء ولكن لا تتخلى عن الإسلام." قَصَدَ "الحسيني" بعض الشيوعيين باحثاً عندهم عن شيءٍ منَ التشجيع، ولكن ردة فعلهم كانت متشابهةً حيث قالوا له: "لا يجوز لك ترك الإسلام، نحن لا نأخذ من الشيوعية إلا طريقتها في القتال."

لم تثنه ردودُ الفعل تلك عن هدفه، فأنشأ مجموعةً من المدوّنات إحداها باللغة العربية تدعى "نور العقل" ومُدَونَةٌ أخرى باللغة الإنكليزية سمّاها "الملحد الفخور"، يقول الحسيني: "بدأتُ بالكثير مِنَ النقاشات في تلك المدونات، كلُّ ما كنت أصبو إليه كان الوصولَ إلى الحقيقة، ولم تكن النقاشات كثيرةً، ولم يتابعني أحد في بادئ الأمر". وكتب "الحسيني" في إحدى المدونات منشوراً في أواخر شهر آب/أغسطس سنة 2010، قبل شهرين من اعتقاله:

"يسألني المسلمون عادةً لِمَ تخليت عن الإسلام؟ الشيء الذي صدمني هو عدم قَبُولِ المسلمين فكرة أنّ تركَ الإسلام هو خيارٌ متاحٌ لكل شخصٍ، ولكل شخصٍ الحقُّ في اختياره، كما أنهم يعتقدون أن كلَّ من يتخلى عن الإسلامَ هو عميلٌ أو مخبرٌ للدولِ الغربيةِ وبشكلٍ أساسيٍ عميلٌ لإسرائيل، وبأن من يترك الإسلام يحصل على مبالغ مالية كبيرة من حكومات تلك الدول لقاء الخدمات السرية التي يقوم بها. لا يستوعب المسلمون أنّ الناس أحرارٌ في أفكارهم ومعتقداتهم بالشكل الذي يرونه مناسباً. أردتُ التوضيح بكتابتي لهذا المقال أنّ الديانتين المسيحية واليهودية ليستا أفضل من الإسلام، وعلى القارئ ألا يظن أنني أرفض الإسلام وحده من بين الديانات الأخرى، بل أعتبر أنّ جميع الديانات أساطيرٌ تعصف بالعقل، وركامٌ من الهراء تتنافس فيما بينها أيها أغبى." 2

اتُهِمَ الحسيني بإهانة الإسلام، والتهجم على الديانات، والتحريض على الصراع الديني، واستغرق الأمر أربعةَ أشهرٍ ليتم تحويله إلى المحاكمة. يقول الحسيني أنه حضر أمام المحكمة أكثر من عشر مراتٍ؛ وفي كل مرة كان يتم تأجيل النطقِ بالحكم. ويعتقد أنّ سبب اعتقاله سياسيٌ أكثر من كونه دينيا؛ ألا وهو نتيجة التنافس بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحركة حماس الإسلامية في قطاع غزة، حيث وجّهت حماس اتهاماتٍ للسلطة الفلسطينية بأنها لم تكن متديّنة بالقدر الكافي، لذلك أخذت السلطة الفلسطينية على نفسها محاولة إظهار بعض الاستحقاق والشرعية الدينية.

يضيف الحسيني:

"خلال الأشهر الأربعة الأولى لم أكن أنام سوى ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ في كل ليلةٍ، وأقضي بقية الوقت أجيب عن تساؤلاتهم واقفاً على قدميّ، وكانت أسئلتهم: من كان يدفع لك؟ هل تتعامل مع الموساد (المخابرات الإسرائيلية)؟ هل تعمل مع آخرين؟ كان جوابي لا، كل ما أقوم به هو كتابة مقالاتي وأفكاري، هذا كل شيء. كما اعتقدوا أنني أحصلُ على تمويل من بعض الحكومات فتحققوا من حسابي المصرفيّ. بقيت طيلة تلك الشهور الأربعة على هذه الحالة وحيداً طوال الوقت."

"ادّعوا أنهم اعتقلوني خشية أن يقتلني شخصٌ ما؛ لكنّ ذلك كان جزءاً من الحملة الإعلامية التي أطلقوها لتبرير احتجازي. قلتُ لهم: كيف تقومون بحمايتي؟ إن كنتُ موجوداً هنا من أجل سلامتي، فَلِمَ لا تسمحون لي بالنوم إذاً؟ ولماذا تسألونني كل هذه الأسئلة؟ ولماذا تأخذونني إلى المحكمة؟"

أُطلِقَ سراحُ الحسيني بعد احتجاز استمرّ عشرة أشهرٍ، وطُلِب منه ألا يستخدم الإنترنت وألّا يُجري اتصالاتٍ بهاتفه النقال، كما كان عليه أنْ يراجع مخفر الشرطة في كل مساء.

لم تكن تلك نهاية المشكلة لآنّ السلطات الفلسطينية كانت تعتقل الحسيني في كل مرة يتم فيها نشر أيَّ شيء يهاجم الإسلام لأنه أصبح موضعَ شُبهة، فيقول: "كانوا يعتقلونني في أمسيات الخميس لأن المحكمة تأخذ عطلة في يومي الجمعة والسبت فأقضي الوقتَ في المعتقل، ويطلقون سراحي يوم الأحد معلنين براءَتي وهكذا؛ إلى أنْ أخبرتني صِحَفِيَةٌ أمريكية في القدس كنت على تواصل معها أنه ربما يجب عليّ التفكير بالسفر".

سافر الحسيني بعد ذلك إلى الأردن براً وطلب المساعدة من السفارة الفرنسية، ويقول: "علمتُ أنّ فرنسا كانت تمارس ضغوطاً على السلطة الفلسطينية بعد أنْ سمعوا بقصتي، فحصلتُ بعد بضعة أيام على تأشيرة تسمح لي بالعمل والعيش في فرنسا."

تعرّض ألبير صابر الملحد المصريّ المنحدر من عائلةٍ مسيحيةٍ قبطية إلى النفي أيضاً بِسَبَبِ منشوراته على شبكة الإنترنت. يقول صابر: "بدأت بالحديث عن الدين والسياسة عندما كنت في السنة الجامعية الأولى؛ حيث كان لدي صفحة بموقع "Geocities" على شبكة الإنترنت؛ نشرتُ بعض المقالات فيها بهدف مشاركة أفكاري."

عندما انتشرت آراؤه في جامعة بني سويف راح الإسلاميون يهددونه، وتعرض بحسب زعمه لثلاث محاولات اغتيال، وعندما أخبر صابر حَرَسَ الجامعة بذلك؛ نصحوه بتركِ دراسته بدل أن يأمنوا له الحماية، وقالوا له: "عليك ألا تأتي إلى الجامعة مرةً أخرى، نحن لا نستطيع أن نحميك أو ندعمك، عليك أن تغادر الجامعة." أخذ صابر بنصيحتهم وأنتقل إلى جامعة أخرى محولاً دراسته من الفلسفة إلى علوم الكمبيوتر، لكن متاعبه تجددت بعد ثورة 2011 في مصر عندما لفتت منشوراته على الإنترنت انتباهَ الإسلاميين من جديد، وأراد الكثيرون في حينها تناقل الأشياء السيئة عنه.

في سنة 2012 سَبَّبَ انتشار مقطع فيديو مدته 14 دقيقة تم إنتاجه في الولايات المتحدة بعنوان "براءة المسلمين" مظاهراتٍ في الكثير من الدُوَلِ المسلمة، وتم محاصرة السفارة الأمريكية في القاهرة من قبل المتظاهرين، كما انتشرت موجاتُ شغبٍ في العالم خلّفت نحو 50 قتيلاً.

يُظهر الفيلم عداءً واضحاً للمسلمين، وقد نُشِرَ على موقع يوتيوب بهدف الترويج لفيلمٍ طويل، ووصفته مجلة "Vanity Fair" في أحد مقالاتها بأنه "ليس إلا فيلم هواة؛ حيث تبدو حواراته غَيرِ مترابطة؛ كما أنّ الطريقة التي حُرر فيها الفيلم تبدو متقلبة، وأداؤه ميلودرامياً حتى في اللقطات الصامتة. من الواضح أنّ هدف الفيلم كان الإساءة إلى المسلمين عن طريق تصويرِ النبي محمدٍ بأنه مجرمٌ متعطشٌ للدماء، وزيرُ نساءٍ ومنجذبٌ جنسياً للأطفال وذو رغباتٍ جنسيةٍ متنوعة." 3

أثارت الأخبار التي تم تداولها عن الفيلم إشاعاتٍ كثيرة في مصر؛ فقد ذكرت بعض المواقع الإسلامية أنّ مقطع الفيديو هذا هو ترويجٌ لفيلمٍ طويلٍ مدته ساعتان سيُعرض مجاناً بجميع دور السينما في الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ الحادي عشر من أيلول (الذكرى السنوية لهجمات أيلول/سبتمبر 2001). يقول صابر إن الكثير من أصدقائه سألوه عن الفيلم، ويضيف أن الشائعاتِ التي درات حول الفيلم غيرُ صحيحة، فأراد أنْ يوضح الصورة، فقال:

"قمت بمشاركة هذا الفيلم على الإنترنت لشرح قصته الحقيقية، وليس بهدف إهانة المسلمين، حيث أنّ الفيلمَ كان مجرد قصةٍ مزيفةٍ، وأنّ مقطع الفيديو الذي نُشِرَ رديءَ التصوير أكثر من كونه فيلماً وذو جودة منخفضة؛ كما أنّ القصة كانت بالغة السوء."

بعد أيام قليلة انتشرت صورة صابر، ورقم هاتفه، وعنوان منزله على شبكات التواصل الاجتماعي، فيقول:

"راح الناس يتصلون بي ويرسلون لي رسائل يهددوني فيها بقتلي وبمعاقبتي من قبيل: "سوف نأتيك إلى منزلك." كما زعموا أنني أسيءُ إلى الإسلامِ، وأشياءَ أخرى مشابهةٍ. أجبتهم أنّ هذا غير صحيح، وبأنني لا أسيء للإسلام، وأنّ لدي مدونةً وبإمكانهم قراءة كتاباتي ومشاهدة مقاطع الفيديو التي قمت بنشرها، وشرحت لهم بأنّ كل ما أقوم به هو المقارنة بين الأديان لأنني درست الفلسفة والديانات؛ وهذا سبب مناقشتي لها".

اجتمع حشدٌ من نحو 200 إلى 300 شخص أمام منزل صابر، مما استدعى اتصاله بالشرطة؛ لكنهم لم يهتموا بذلك بادئ الأمر، ولكن وبعد مضي نصف ساعة بدأ الحشد بتحطيم باب منزله، فاتصل الجيران بالشرطة مرات عدة، واعتقلت الشرطةُ صابر فور وصولهم، واتُّهموه تحت المادة 98 من قانون العقوبات المصري التي تجرِّمُ استخدام الدين "لشحن الأفكار المتطرفة بنية إحداث العصيان، أو إهانة ديانةٍ إبراهيمية، أو إضعافِ الْلُحمة الوطنيةِ،" ووفقاً لعريضة الاتهام ذُكر أنّ صابر قام "بإهانة الله، والتشكيك بكتب الديانات الإبراهيمية، وإنكار وجود الله وخلقه للبشر،" وتمت إدانته، وحُكِمَ عليه بالسجن لثلاث سنواتٍ، ليُفْرَجَ عنه بكفالة مالية سافر بعدها إلى سويسرا.

من الصعب تجنب الدين في الشرق الأوسط، حتى بالنسبة لمن يحاولون ذلك، فمآذن الجوامع تصدَح بالأذان للصلاة، كما أنّ لِحى الرجال، وخُمُرَ النساء، والاستخدام المستمر للمصطلحاتِ الدينيةِ في الأحاديثِ اليوميةِ تظهر مقدار الالتزام الديني في هذه المنطقة.

إنّ لمعظمِ الدول العربية ديانةٌ رسميةٌ وقوانين تمت صياغتها تبعاً لمفاهيمَ دينية، ويُعتبر الانتماء الديني في بعض الدول أمراً بالغَ الأهمية لدرجة ذِكره في الهويةِ الشخصيةِ؛ كما أنّ الخياراتِ مقصورة على الديانات المعترَفِ بها رسمياً؛ وفي بعض الأحيان ليس هنالك مجالٍ للاختيار بين الديانات أصلاً، حيث تقرر الدولة ديانة الفرد تبعاً لدين والديه، كما يُعتبر تغيير ديانة الفرد من ديانةٍ إلى أخرى أمراً صعباً، وربما غير قانوني، كما أنّ الزواج في مراسمٍ لا دينيةٍ يمكنُ أنْ يكونَ مستحيلاً دونَ السفر إلى الخارج.

لاستحواذَ الدين على الناس في الشرق الأوسط جذورٌ تاريخية؛ فقد وُلدت ثلاث دياناتٍ رئيسيةٍ في هذه المنطقة؛ هي الإسلامُ والمسيحيةُ واليهودية. تدّعي جميع هذه الديانات أنّها على علاقةٍ خاصةٍ مع كائنٍ عظيمٍ يتصف بأنه أزلي كلِّيّ القُدرَةِ ومطلقُ الحكمةِ؛ لكنّ البشر العاديين لا يستطيعون رؤيته. تُنافس هذه الديانات التوحيدية بعضها بعضاً بالرغم من القواسم المشتركة فيما بينها؛ كما أنّ هنالك تنافساً بين الطوائفِ الموجودةِ في الديانة الواحدة، وتأويلات متضاربة لإرادة الله من قبل أولئك الذين يدّعون معرفة الحقيقةِ المطلقةِ، مما أدى إلى سفك الكثير من الدماء على مرّ العصور.

في الدول التي تَمتازُ بالتنوع الديني كلبنان وسورية والعراق، يتم التقسيم الطائفي تبعاً للجغرافيا ومكان الولادة والمعتقد، وتتم الإشارة إلى القرى والبلدات والأحياء تبعاً للطائفة السائدة فيها: فهناك السنية والشيعية والمارونية والدرزية والعلوية...إلخ. إن السؤال الذي يسأله اللبنانيون مثلا عندما يريدون التعرفَ على بعضهم بعضاً: "من أي منطقة أنت؟" يُعتبر الطريقة المؤدبة للسؤال عن الديانة أو الطائفة أو الآراء السياسية أحياناً.

هذا لا يعني أنّ العرب ذاتهم لم يطرحوا تساؤلات عن الدين وتأثيره القوي في الشرق الأوسطُ، حتى من بين الذين لديهم ميولٌ دينية. إنّ الدعوة إلى حرية المعتقد والدولة العلمانية والقضاء على الطائفية لا تعني بالضرورة أنّ من يدعو لذلك يفتقر إلى الإيمان، وقد ازدادت النقاشات التي تخص هذه المواضيع بعد اندلاع الثوراتِ العربية.

ولكن ماذا عن هؤلاء الذين يريدون الهروبَ من الدّين هروباً كلياً؟ إنّ العرب غير المؤمنين والملحدون واللاأدريون هم جزء من ظاهرةٍ جديدةٍ، ولكن أعدادهم في ازدياد، وقد ارتفع صوتهم مؤخراً وبدأوا بالظهور بفضل الإمكانيات التي أتاحتها شبكة الإنترنت، وهم لا ينادون بحرية الدين فحسب بل بالتحرر من الدين كلياً، وهذه خطوة أكثر راديكالية بكثير.

إنّ الإيمان بالله أو عدم الإيمان به، وممارسة الشعائر الدينية أو عدم ممارستها هي مسائلُ داعبتْ أحياناً عقول الملايين من الناس قبل اتخاذ القرار بسنوات. يُعتبرُ هذا الأمر قراراً شخصياً في مناطقَ كثيرة من العالم ولا يحق لأحدٍ التدخلَ فيه، ولكن في المجتمع العربي يُعتبَر التصريح العلني بالكفر بالله، أو برفض الدين أمراً صادماً، أو خطيراً في بعض الأحيان، ونتيجةً لذلك اختار الكثيرون إبقاء إلحادهم طي الكتمان لعدم إغضاب أسرهم.

ويتبنى من لديهم الجرأة للمجاهرة بإلحادهم اللغةَ التي يستخدمها المطالبون بحقوق المثليين جنسياً، ويقولون إنّ هذا الأمر سيتكشّف ويبرز أكثر في المستقبل. هنالك تشابه بين الإلحاد والمثلية الجنسية؛ حيث تُعتبر من المحرمات في المجتمع العربي ولها ذات العواقب في حال الإعلان عن أيّ منها، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى النفي من قِبَلِ العائلةِ والأصدقاءِ والمجتمعِ المحليِ، فضلاً عن الاصطدام بالقانون.

من الطبيعي أن تقلق العائلات المتدينة عندما تعرف أنّ أحد أحبائهم قد قُدِّرَ له أنْ يُعاقبَ بالدخول إلى الجحيم، وبالنسبة للعربي الذي ترك الإسلام؛ هناك بعض التعقيدات الأخرى التي عليه مواجهتها، فالدين في الوطن العربي لا يُعتبر مجرد مسألة إيمانٍ أو كفر، ولا يُنظَر إليه بالضرورة على أنّه حريةٌ شخصية، كما أنّ للإسلام مناحٍ اجتماعية قوية مبنية على مصطلح الأمة، وأقصدُ بها مجتمع عموم المؤمنين، ويميل هذا المجتمع إلى النفورِ من التعبير عن الحرية الفردية، والشذوذ عنه، حيث يجب على الأفراد أنْ يتجمعوا ويتصرفو - أمام العامة على الأقل - بطرقٍ تتماشى مع روحِ المجتمعِ الإسلامي، وعندما يتصرفُ الفردُ بشكلٍ لا يتوافقُ مع قواعدِ السلوكِ العامة - وخاصةً إذا ما جاهر بذلك - فسيُنظَرُ إليه على أنه مٌدَمِرٌ لتماسك المجتمع وتضامنه.

زِدْ على ذلك أنّ الدينَ في الشرق الأوسط غالباً ما يشكلُ مكوناً أساسياً في شعورِ الناسِ بالهويةِ؛ ففي استطلاع رأيٍ أُجري في ستّ دولٍ عربيةٍ وَجَدَ المستطلعون في أربعٍ منها وهي الأردن والمغرب والسعودية والإمارات أنّ مصطلحَ "الهويةِ الإسلاميةِ" يتقدم على مصطلحِ "الهويةِ الوطنيةِ"، و"الهوية العربيةِ"، أما في مصر ولبنان فقد أتت "الهوية الوطنية" في المقدمة بحسب الاستطلاع نفسه4. إنّ هذا الأمر يضفي بُعْداً سياسياً لدور الدين في المجتمع العربي، حيث يُعتَبرُ الإحياء الإسلامي وصعود الحركاتِ الإسلامية في أواخر القرنِ العشرين إحدى الوسائل الدفاعية، أو بمعنىً آخر، تُعتبرُ ردةَ فعلٍ على تهديدٍ حقيقيّ من الخارج عموماً، ومن الغرب خصوصاً.

تعود بداياتُ هذه النزعة إلى الهزيمة المدويّة التي تلقاها العرب في حرب 1967 ضد إسرائيل، حيث كان لتلك الهزيمة صدمة نفسية كبيرة، واعتبر الإسلاميون انتشارَ القوميةِ والعلمانية والابتعادَ عن الطريقِ المقدّسِ أحد أهمَّ أسباب تلك الهزيمة، وقد عززت الكثير من الأحداث اللاحقة الأخرى فكرةَ أنّ وقوف الله إلى جانب المسلمين تجعل خسارتهم في حروبهم أمراً مستحيلاً، ومن الأمثلة على ذلك الثورة الإسلامية في إيران ونجاح "المجاهدين" في دحر القوات السوفييتية في أفغانستان في أواخر الثمانينياتِ من القرنِ العشرين وانسحاب إسرائيل من جنوبِ لبنان الذي اعتبرته حركةُ المقاومةِ الشيعية "حزب الله" انتصاراً لها.

إنّ التركيزَ على المظاهر الخارجية هو أحدُ نتائجِ اعتبار الدين سمةً من سمات الهويةِ، فلكي نربط الدين بالهوية ربطاً وثيقاُ، لا بدّ من التعبير عن الدّين بشكل واضح، ومن العلامات المميزة لذلك هو ازديادُ عدد النساء اللواتي يرتدين الحجاب مقارنةً بعددهنّ في خمسينيات وستينيات القرنِ العشرين، كما يؤدي ذلك إلى التركيز على أدقّ تفاصيل الشعائرِ الدينيةِ، فغالباً ما توصف قواعدُ السلوك الصحيحةِ في الإسلام بأدقِ تفاصيلها وبالاستناد إلى أبسط أدلة من القرآن، وينطبق هذا الأمر على مستوى المجتمع بمحاولاتٍ لوضع قواعدَ إسلاميةٍ واضحةٍ في المجال العام؛ إما من خلالِ الاقتداء بالأقران، أو عن طريقِ فرضها بالقوة.

أضِفْ إلى ذلك مشكلة الرُهاب من الإسلام (الإسلاموفوبيا) والتي انتشرت خصوصاً بعد هجماتِ تنظيم القاعدة في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر سنة 2001، كما أنَّ تصويرَ كلّ مسلمٍ على أنّه إرهابيٌ مُحتمل، وحَجزَ المشتبهٍ بهم في معتقل "غوانتنامو"، والاعتداءاتِ المتكررةَ ضد المسلمين، والتمييز الممارَس بحقهم أدى إلى خلق حساسيات كثيرة، وعزز من المزاعم القائلة بأنّ المسلمين عموماً معرضون للاعتداء. وفي مناخٍ كهذا سوف تُفهم محاولات التشكيك بالقرآن وتعاليمه على أنها ضربٌ من التحريض.

إنّ ما سبقَ يوقعُ العربَ الذين يقرّرون الإلحاد في مشاكلَ جمّة، فهناك الصراع الفكري بين الإيمان والإلحاد، لكن لا يمكن ببساطةٍ فصلُ هذا عن المشاكل الأخرى المرافقة للدين في الشرق الأوسط. إنَّ العرب الذين يتخلون عن الإسلام يُتّهَمون بأنهم يخونونَ هويتهم وثقافتهم، والملحدون عندما يؤكدون على حقهم في الإلحاد فهم يؤكدون على حقهم في حرية التفكير والاعتقاد، وهو حق يملكه الجميع، حتى الأفراد الأكثر ورعاً وتقوى.

يُعتبر جميعُ المواطنين في المملكة العربية السعودية مسلمين رسمياً سواءً راق لهم ذلك أم لم يرق، ويُمنع ممارسة أيّةِ ديانة أخرى هناك، وتحاول السلطات السعودية أنْ تصور المملكةَ على أنها بلدٌ وَرِعٌ وتقيّ إلى حدٍّ يُفرَضُ فيه على أصحاب المحالِّ التجارية إغلاقُها في أوقات الصلاة، كما يتوجب على السعوديين التقيُّدَ بقوانينِ اللباسِ والسلوك الإسلامي. غير أنّ استطلاعاً للرأي أجراه معهد "WIN/Gallup International" الدولي زعزع مزاعم المملكة بالقداسة، وقد دار الاستطلاع حول الدينِ والإلحادِ، وشمل 57 دولةً من بينها المملكة العربية السعودية، وأظهر أنّ 19% ممّن تمَّت مقابلتهم في السعودية قالوا أنهم غير متدينين كما وصف 5% منهم أنفسَهم أنّهم مقتنعون بالإلحاد 5، وقد كانت نسبة الذين عرَّفوا عن أنفسهم في المملكة العربية السعودية بأنهم ملحدون، الأعلى بين جميع الدول الإسلامية التي شملها الاستطلاع. توضح هذه الأرقام - إنْ صحَّتْ - أنّ ربعَ سُكان المملكة على الأقل ممن يسكنون في المدن التي أُجري فيها الاستطلاع ليس عندهم أيَّ اهتمامٍ معيّن بالدين، وأنّ شخصاً من بين كلِّ عشرين شخصاً ليس ملحداً فحسب وإنما على استعداد للإفصاح عن إلحاده أمام القائم على استطلاع الرأي ذاك؛ رغم اعتبار الاعتراف بالإلحاد واحدةً من الجرائم التي يُعَاقَبُ عليها بالإعدام في المملكة العربية السعودية.

وعلى إثر الاستطلاع راح رجال الدّين في المملكة يفكرون مليّاً في كيفية وضع حدٍّ لانتشار الإلحاد بدلاً من مناقشة نتائج الاستطلاع كما يُفترَضُ بهم فعله، واستهلَّتْ مقالةٌ نُشِرَت في صحيفة "الوطن" السعودية بما يلي:

"علينا محاربة ظاهرة الإلحاد عن طريق إطلاقِ مبادراتٍ تقضي عليها في براعمها، وذلك قبل أنْ تستفحل في قلوب أبنائنا وبناتنا، ولا يمكننا تنفيذ ذلك إلا بإطلاق حملةٍ وطنيةٍ شاملة. إنَّ الشباب السعودي ينغمسون في مستنقع الإلحاد المظلم عند تصَفّحِ مواقعِ التواصلِ الاجتماعي فيقرؤون ما يكتبه الملحدون؛ كما أنَّ الطلابَ المبتَعثين الذين يدرسون في الجامعات الغربية يخوضون حواراتٍ حول الإلحاد مع أساتذتهم."

واختُتمَتِ المقالة بالدّعوة إلى وضع خطّةٍ استراتيجيّة وطنيّةٍ لمحاربة الإلحاد وحماية الدّين حيث تقول:

"ما يحدث اليوم في الساحة من جهودٍ للتصدي للملاحدة الجدد، إنما هي مبادراتٌ فردية محدودة، والقضية تحتاج لوقفة المجتمع كلّه، لا أنْ تُترَكُ لفُرادى الدعاةِ واجتهادات طلبة العلم العشوائية على فضلها ونفعها وخيريّتها، ولكنها محدودة التأثير. لا بد لهذا الملفّ من استراتيجيّةٍ وطنيّةٍ تتبناها المؤسسات الشرعية في بلادنا وتقوم بدورها وواجبها في حماية دين الله، فكما قمنا بحملة ضد التطرّف الديني، وكشف منابعه وجذوره، علينا اليوم كمجتمع التصدي لظاهرة التطرف المضاد المتمثل في هؤلاء الملاحدة الجدد. لعلَّ وزارة الشؤون الإسلامية ووزيرها الفاضل معالي الشيخ صالح آل الشيخ، يتبنى هذه المسؤولية، عبر وضع استراتيجيات كُبْرى، لحمْلة مركّزة ضد الإلحاد القادم، والاستعانة بخبراء متخصصين في التخطيط، إنْ كان بإنشاء مراكز متخصصة في محاورة الشباب، وإشهارها إعلاميا كي يسهل الوصولُ إليها، أو ببث برامج تلفازية في القنوات العامة .... أميل إلى إنشاء قناة فضائية متخصصة، والتركيز على إنتاج برامج علمية تناقش بأسلوبٍ عصريّ كل الشُّبَهِ التي يلقيها شياطين الإلحاد على شبابنا... إنّ معالجة الداء في بداياته أسهل بكثير قبل أنّ يستفحل كالسرطان في الجسم، ونندم حينها على عجزنا، ولات ساعة مندم." 6

قد تبدو دعوة كاتب المقال إلى معاملة الإلحاد معاملةَ الإرهاب أمراً مثيراً للسخرية بعض الشيء، لكن السلطات السعودية كانت قد بدأت بدراسة هذهِ الفكرةِ بجدية، حيث أعلنت في شهر كانون الثاني/يناير سنة 2014 عن قانونٍ فضفاض جديدٍ ضدّ الإرهاب يحظُر الدعوة إلى الإلحاد بأيّ شكلٍ كان، كما يحظر التشكيك في أساسياتِ الدين الإسلامي التي بُنيت عليها المملكة. 7

تعتبر مساواةُ الإلحاد بالإرهاب في المصطلحات السعودية أمراً فيه بعضُ المنطقِ لأن الإلحاد يشكل تهديداً للمبادئ الأساسية للدولة السعودية، فالقانونَ الأساسي لسنة 1992، أو ما يشبه الدستور، يربط وبقوة ما بين الإسلام والدولة:

المادة الأولى (1): "المملكةُ العربية السعودية" دولةً إسلاميةً ذاتَ سيادةٍ تامة، دينها الإسلامُ ودستورها كتابَ اللهِ تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم...

المادة السادسة (6): يبايع المواطنون الملكَ على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة...

المادة السابعة (7): يستمد الحكمُ في المملكة العربية السعوديةُ سلطتَهُ من كتاب الله تعلى، وسنة رسوله.

المادة الثامنة (8): يقوم الحكم في المملكة العربية السعوديةُ على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية.

المادة التاسعة (9): الأسرة هي نواة المجتمعِ السعوديِ، ويربّى أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية.

المادة الحادية عشرة (11): يقوم المجتمع السعودي على أساسٍ من اعتصامِ أفرادِه بحبل الله، وتعاونهم على البرِّ والتقوى، والتكافل فيما بينهم، وعدم تفرقهم...

المادة الثالثة عشرة (13): يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النَّشْء...

المادة الثالثة والعشرون (23): تحمي الدولة عقيدة الإسلامَ، وتُطَبِقُ شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله. 8

لا يستطيع الملحدون تقبُّلَ ذلك إذا ما أرادوا التمسك بمبادئهم، كما لا تستطيع المملكة قَبُولَ الإلحاد دونَ تغيير الأساسات التي بُنيت عليها، ومن الصعب تَوقُّعُ حلٍّ لهذه المشكلة دونَ إحداث تغيير سياسيٍّ جذريٍّ.

تَعْلمُ الحكومة السعودية أنّ بإمكانها التأثير في تفكير الناس لكنها لا تستطيع التحكم به تحكماً مطلقاً، لذا فهي تستمر في فرض قواعدَ سلوكٍ إسلامية وفي نفس الوقت تُسْكِتُ أصوات غير المؤمنين، غير أنّ بعض رجال الدين يشككون في نجاح ذلك على المدى الطويل.

يقول غازي المغلوث الأستاذُ في قسم الثقافةِ الإسلاميةِ في جامعة الأحساء في حديثه لصحيفة Saudi Gazette: "سيكون لقمع الملحدين ومهاجمتهم نتائجُ عكسيةٌ على الأرجح، حيث سيؤدي ذلك إلى تصرف الشبابِ بعنف، فضلاً عن زيادة تعلقهم بالإلحاد، ولذا فمن المهم جداً أن نحاورهم وتناقشهم بطريقة ودية، فالفوز بالقلوب أهم من احتلال المدن."؛ في حين دعا يوسف الغامدي أستاذ العقيدة في جامعة أم القرى إلى الدخول في حوارات "مقنعة ومؤثرة" مع هؤلاء الشباب، ويرى أنّ "الإلحادَ ظاهرةٌ فكرية لا سلوكية، لذا يجب التعامل معها بطريقة فكرية. 9

كما أنّ السعوديين راحوا يتساءلون عن سبب ظهور الإلحاد في المملكة، فبعضهم ألقى بكامل اللوم على التأثير الغربي والاختراعات الحديثة مثل ألعاب الفيديو، لدرجة أنّ أحدهم يرى "أنّ أعداء الإسلام يستخدمون هذه الحيلة لتضليل الأطفال السعوديين عن طريق الألعاب التي تروّج للإلحاد والشّرك وتهدف إلى حرفهم عن دينهمِ." 10

إحدى النظريات الأخرى، والتي تبدو معقولةً أكثر، ترى أنّ سبب ابتعاد السعوديين عن الدين هو الطريقة التي يُدَرَّسُ فيها هذا الدّين والمواقف الرجعية وغالباً الرجعية بشكل هزليّ، والتي تصدر عن الكثير من رجال الدين في المملكة، فقد أشار أحد الكتّاب في صحيفة المدينة إلى إجبار طلاب المدارس على حفظ قوائم طويلة من المحرمات، ولكن عندما يتركون المدرسة يجدون أنّ الكبار يخرقون هذه القوانين باستمرار. يقول الكاتب:

"بينما يكبر أطفالنا يشاهدون تناقضاً كبير بين ما يتعلمونه في المدرسة، وبين ما يشاهدونه في الحياة العملية؛ فهم يشاهدون البالغين يرتكبون يومياً تصرفات تتنافى مع الإسلام، فمثلاً يلاحظ الطفل والدَه يتكاسل عن الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة عند سماعه الأذان؛ غير أنّ هذا الطالب يتعلم في المدرسة أنّ عدم تأدية الصلاة على وقتها يعتبر نوعاً من الكفر، كما يتعلم الطلاب والطالبات أنّ الترفيه حرامٌ، في حين أنّهم يشاهدون عدداً كبيراً من الرجال والنساء الذين يذهبون إلى حدائق التسلية أو حتى يسافرون خارج المملكة لغرض الترفيه." 11

يعتقد الملحدُ السعوديُّ عمر هادي أنَّ نسبة المرتدين عن الدين ربما تكون أعلى مما ظهر في استطلاع الرأي الذي أجراه معهد "WIN/Gallup International"؛ رغم أنّ بعض الذين جاهروا بتخليهم عن الدينَ قد قاموا بذلك "كردة فعل عكسية" للقيود المشددة التي يفرضها المجتمع السعودي على المواطنين، ويرى عمر، (اسمه مستعار)، أنه إذا ما انتقل ذاتُ الأفراد إلى بلاد الغرب فلربما يعودون إلى الإسلام من جديد، ويضيف قائلاً:

"إنّ الشكوك التي انتابتني هي في ازدياد بسبب الطريقة التي تعلمنا بها، ورغم المحاولات المتكررة لتقديم الشرح الكافي لكنها لم تكن منطقية، وحينئذ أمرونا أن نغلق أفواهنا وأن نقبل الأمر كما هو. عليهم إقناعُنا من خلال تدريس الدين بطريقة فيها لباقة أكثر، ربما تنجح هذه الطريقة مع أغلب الناس، ولكن سوف يبقى هناك بعضٌ ممن لن يقتنعوا البتة. أنا أفهم المعضلة التي تواجههم، ففور شروعهم في إصلاحه سيبدو الدين بشرياً أكثر من كونه إلهياً وبالتالي سيفقد قداسته." 12

ويضيف عمر أن الكثير من رجال الدين السعوديين فقدوا كثيراً من مصداقيتهم عندما رفضوا الاختراعات التكنولوجية بادئ ظهورها، ومن ثم تراجعوا عن ذلك عندما أثبتت تلك الاختراعات جدواها وفائدتها للناس. فيقول:

"أعلن الكثير من رجال الدين السعوديين قبل عشرين عاماً مضتْ أن جميع أنواع التصوير محرمة، وأنّها ذنبٌ، وسوف تحشر في النار إذا التقطت صورة لك. أعرف كثيرين ممن قاموا بالفعل بحرق جميع صورهم، لكن بعد مضي عشرين عاماً ظهر رجال الدين هؤلاء على التلفاز وفي الصحف المطبوعة وهم يقولون: ربما لا يُعتبر التقاط الصورِ ذنباً عظيماً. ماذا إذاً عن الأشخاص الذين قاموا بحرق صورهم؟"

يُظهِر أغلب علماء الدين تطرفاً وعدوانية شديدة أمام أي اختراع جديد في بادئ الأمر، وينطبق هذا على الهواتف النقالة المزودة بكاميرا وعلى أشرطة الكاسيت ومشغلات الفيديو. يقول عمر: "لديَّ نسخةٌ من فتوى تحريم استخدام الهواتف المزودة بكاميرا، لكن الجميع يملك اليوم هذه الهواتف، إنّ هذا التناقض في كيفية التعامل مع الاختراعات الحديثة هو ما يدفع إلى الشك في كل شيء آخر يقوله رجال الدين هؤلاء."

في يومنا هذا، تلْقى العبارات التي يطلقها علماء الدين اهتماماً عند جمهورٍ أكبرَ من ذي قبل، وهي تكشف لديهم جهلاً أو انفصالاً عن الواقع، حيث تتناقل وسائل الإعلام الرسمية عن المواقع الإلكترونية الدينية تلك العبارات مما يؤدي إلى أخذها من قبل القارئين على محمل الجد. تنقل وسائل الإعلام السعودية أحياناً تصريحاتِ رجال الدين بتجرد، وأحيانا بآراء متناقضة، ولكن يبدو أنّ هذه التصريحات المرفقة بالتقارير تقدم نوعاً من التسلية، مما يظهر رجال الدين هؤلاء بصورةٍ مُضحكة، وما أنْ يتم نشر كلماتهم على وسائل الإعلام الرسمية حتى تصبح تحت رحمة وسائل التواصل الاجتماعي.

أثناء انتشار فايروس "كورونا" في المملكة العربية السعودية، نشرت جريدة الحياة تصريحاً لعبد الله العمراني، وهو أحد مشايخ مدينة تبوك ادّعى فيه أنه اكتشفَ علاجاً للفايروس أثناء أبحاثه في "الطب النبوي." رفض العمراني البوح عن طبيعة العلاج ولكنه أضاف قائلاً إنه استعمله لعلاج الإيدز وسرطان الدم (اللوكيميا) 13 ونجح العلاج، على إثر ذلك اقترح مستخدمو موقع تويتر على العمراني أن يترك الطب ويتفرغ للدين، أثناء ذلك، تساءل رجلُ دينٍ سعوديٌ بارزٌ حول ما إذا كان بالإمكان اعتبار المتوفين نتيجةً لمرض "كورونا" شهداء أم لا، لكنه أعلن بعد ذلك أنهم لا يعتبرون شهداء إلا في حال أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الفايروس أصبح وباءً.

في مناسبةٍ أخرى، ادّعى الشيخ صالح بن سعد اللحيدان، وهو أحدُ المعارضين للحملة التي تسمح للنساءِ السعوديات بقيادة السيارات، بأن بحثاً علميًا قام به أظهر أن قيادة السيارة تؤثر على مبايض النساء كما أنها تؤدي أيضاً إلى تَلَفٍ في الحوض. هذا هو السبب، كما يقول الشيخ، أن النساء اللواتي يقُدْن السيارات بشكل مستمرٍ يلدْنَ أطفالاً مصابين بخلعٍ ولاديٍ بنسب مختلفة. أما قناة العربية، القناة الإخبارية المملوكة من قبل المملكة العربية السعودية، فقد نقلت بدورها تصريحات الشيخ مرفقةً ببعض التصريحات الساخرة المنشورة على موقع تويتر بالإضافة إلى تصريحٍ لرئيس الشرطة الدينية قائلاً: "لا تتضمن الشريعة الإسلامية نصاً يحرم قيادة المرأة للسيارة." 14 وبدوره قام الفنان الكوميدي هشام فجة المولود في السعودية بالتهكم على ادعاءات اللحيدان بخصوص تضرر مبايض النساء وذلك في أغنية أداها برفقة صديقيه بعنوان "لا أيتها المرأة، لا لقيادة السيارة"؛ وتم غناؤها على موسيقى أغنية "بوب مارلي": "لا أيتها المرأة، لا للبكاء"، وحصدت الأغنية أكثر من 11 مليون مشاهدة عندما نُشِرَتْ على موقع يوتيوب. 15

ووفقاً لمقالةِ رأيٍ نُشرتْ في صحيفة الوطن، تعتبر المحاورات التي يجريها الطلاب المبتَعثون للدراسة في الخارج مع أساتذتهم في الجامعات الأوربية إحدى العوامل الرئيسية الأخرى التي قادت الشباب السعودي إلى "مستنقع الإلحاد المظلم،" 16 ويعتبر هذا التصريح نقداً مبطناً لأحد مشاريع الملك عبد الله: "برنامج الملك عبد الله للمنح الدراسية" الذي لم يستطع نيلَ ودِّ رجال الدين والمتشددين السعوديين. تم افتتاح المشروع سنة 2005 بكلفة سنوية تصل إلى 9 مليار ريال سعودي؛ ويقدم دعماً مالياً لـنحو 125000 طالبٍ سعوديٍ للدراسة في جامعات خارجِ حدود المملكة، وتقع أغلب هذه الجامعات في "الولايات المتحدة الأمريكية، وتُقدر نسبةُ الطالبات الإناث في برنامج المِنَح الدراسية بنحو 30%. تم تفسير هذه الخطوة رسمياً على أنها استثمار للمستقبل الاقتصادي في المملكة، أي لخلق قوة عملٍ متعلمةٍ ومتقدمةٍ والتي بالنتيجة تؤدي إلى تخفيف الاعتماد على الخبرات الأجنبية إلا أنها تؤدي أيضاً إلى تعزيز التغيير الاجتماعي من خلال اطّلاع الشباب السعودي على ثقافات أخرى وهو ما يعارضه المحافظون.

قالت صحيفة "Saudi Gazette" في إحدى مقالاتها: "من خلال وجهة نظر الآخرين إلى ثقافتك يمكنك معرفة القيمة الحقيقية لتلك الثقافة". وقال الطلاب الذين شاركوا في برنامج المنح الدراسية للصحيفة أنّ البرنامج ساعدهم على "تَقَبل الأفكار والأشخاص المختلفين" كما أنه علمهم "حقيقة التفكير النقدي،" ولكنه أدى أيضاً إلى زيادة سخطهم عند عودتهم إلى المملكة. كما أن أحد الطلبة الذين درسوا القانون في الخارج علق قائلاً: "تفرض عليّ مهنتي التعامل مع أكثر الأنظمة القانونية رجعيةً في العالم، ذلك النظام الذي يتطور بخطوات بطيئةٍ جداً". كما علّقتْ إحدى الطالبات أنه "من الصعب التأقلم مع الفوضى الموجودة هنا (في المملكة العربية السعودية) بعد الاعتياد على أسلوبٍ آخرَ أكثرَ تحضراً في الخارج." 17

بدوره شبَّه سعود القبلي، وهو عالِمٌ سياسيٌ وصحفي في جريدة الوطن، برنامجَ البعثاتِ السعودي ببرنامج البعثات التعليمية التي أطلقها محمد علي باشا إلى أوربا في عشرينياتِ القرنِ التاسع عشر والذي ساعد في بناء مصر الحديثة وشكّل فيما بعد الدافع الرئيس لقيامِ النهضة العربية، فيمكن لأي شخص يزور المملكة اليوم أن يرى الشبابَ السعوديَ وقد أصبح أكثرَ ثقةً بنفسه ومنفتحاً بشكل أكبرٍ على العالم وأكثر تقبلاً للمُثُلِ العالميةِ. يقول سعود القبلي: "يُعتَبرُ الشبابُ السعوديُّ قوةَ التغيير الخفيّةِ، ومما لاشك فيه سوف أنها ستغيّر المجتمعَ في السنين القادمة، وكما يبدو أن الحكومةَ تلاحظ هذا التغيير وتستفيد منه على أمل أنْ يأتيَ هذا التغيير بشكل تدريجي بدلاً من أن يُفْرَضَ من الأعلى." 18

لا شكّ أن الانفتاح الذي وفّره برنامجُ البعثات قد أثَّر في وجهاتِ النظرِ الدينيّة لبعض الطلبة المشاركين في برنامج المنح الدراسية. يقول عمر هادي: "عندما تَكبرُ وتترعرعُ في السعودية يتم تشريْبُكَ فكرة أنَّ غير المسلمين هم كائناتٌ شريرة، وأنهم سوف يذهبون إلى الجحيم، وأن كل فردٍ غيرَ مسلمٍ يتربَّصُ بك، لكن عندما تذهب وتعيش معهم وتأكل وتدرس معهم وتختلط بهم بطريقة طبيعية بسيطة تلاحظ أنهم ليسوا أشراراً. بعد فترةٍ من الزمن يدفعك هذا لأن تقول: "لقد لمستُ الكثير من الكرم واللطف في هؤلاء الناس لدرجةٍ تجعل من الصعب التصديق أنهم سيُحْشَرُوْنَ في جهنم."

دَفَعَتْ مخاوفُ تأثير برنامج البعثات الدراسية على المجتمع السعودي أحدَ المشايخ السعوديين إلى الادّعاء بأنَّ "السفرَ إلى بلاد الكفر لغرضَ العمل أو الدراسة حرامٌ شرعاً، إلّا في حالات الضرورة القصوى وبشروطٍ محددةٍ، وبأن من يموت في تلك البلاد قد يُحشر في جهنم." وبدوره قال الشيخ عبد الله السويلم الذي يعمل في برنامج إعادة تأهيل المساجين المؤيدين للقاعدة ـلصحيفةِ الحياة أن الشرطَ الأولَ للسماحِ بالسفرِ إلى الخارج هو أنْ يكون الفرد "ذا إيمانٍ راسخ" وأن يتمتع بحصانةٍ دينيةٍ تمنعه من الوقوع في "الشهوات"، وأضاف السويلم: "إن كلَّ شخصٍ يخافُ على نفسه من الوقوعِ في المحرمات مثل شرب الكحول، عليه ألا يُسافر إلى بلاد الكفر إلا في حالات الضرورة." 19

تُعتبر المملكة العربية السعودية ضحيةً لما وصفه "آلفن توفلرAlvin Toffler" "بالصدمة المستقبلية"؛ حيث حوَّلَ اكتشافَ النفط المملكةَ، خلالَ بضعة عقود من القرن العشرين، من إحدى أفقر الدول في العالم إلى واحدة من أغناها، وما تزال المملكة تصارعُ لتتكيف مع ذلك التحول، كما يزداد المجتمع السعودي استقطاباً؛ حيث يشن المحافظون حرباً قد تكون خاسرة ضد انقضاض الحداثة؛ وذلك في ظل غياب النقاش الأكثر عقلانية للحفاظ على الوضع الحالي، ودفاعُهم عن ذلك يأتي باستخدام الدّين وبثّ الخوف من الوقوع في الرذيلة وارتكاب المعاصي.

وباتَتْ خاطئةً تلك الفكرةُ التي تقول: "إن الدين هو الأساس للحفاظ على النظام في المجتمع". حيث ذَكَر "فيل زوكرمان Phil Zuckerman" في كتاب "دليل كامبردج للإلحاد" أنّ "الدوَلَ ذاتَ النسبةِ المرتفعةِ من الملحدين تُعْتَبر من أكثر الدول صحةً وغنىً على مستوى العالم." وألقى "زوكرمان" نظرة على الترتيب العالمي للدول فيما يخصّ المعتقد الديني، وقارنه مع مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وكانت النتائج صادمةَ؛ فالدول الخمس والعشرونَ الأعلى ترتيباً في المؤشر، باستثناء إيرلندا، تحوي نسبة مرتفعةً جداً من الملحدين، في الطرف المقابل، تضمنتِ الدول الخمسونَ، الأدنى ترتيباً في المؤشر، نسباً منخفضةً جداً من الملحدين.

وبشكل تفصيلي أكثر، واعتماداً على بيانات أخرى، وجد "زوكرمان" أنّ:

• من بين الأربعين دولةً الأشد فقراً في العالم، جميعُها باستثناء "فيتنام" متدينة بشكل كبير.

• الدول الخمس والثلاثون التي تتضمن أعلى نسبة أمّيّةٍ بين الشباب، جميعُها دولٌ متدينةٌ بشكل كبير.

• معدّل وفيّات الأطفال الرّضّع هي الأقل في الدول غير المتدينة؛ بينما هي الأعلى في الدول المتدينة.

• الدول العشر ذات المستوى الأعلى في المساواة بين الجنسين دولٌ ملحدةٌ، في حين أنّ الدول التي فيها أقل مستويات المساواة هي دولٌ متدينة.

• الدول ذات المعدّلات العالية من جرائم القتل هي دول متدينة، بينما تميل النسبة للانخفاض لتصل إلى درجاتها الدنيا في الدول الأكثرَ علمانية.

يبدو أنّ معدلات الانتحار في الدول المتدينة تسجل مستوياتٍ منخفضةٍ ولكن قد يرجع سبب ذلك جزئياً إلى محرمات دينية تحُول دون تسجيل بعض حالات الموت على أنها انتحار.

يقدم ما سبق دليلاً واضحاً على أنّ انتشار الإلحاد لا يقود إلى انهيار المجتمع، ولا يدّعي "زوكرمان" أنّ الإلحاد هو المسؤول عن المنافع الموجودة في المجتمعات الأقل تديناً، لكنه استنتج أنّ المجتمع السليم يؤدّي إلى انتشار الإلحاد بينما يؤدي انعدام الأمن الاجتماعي إلى انتشار الأيمان بالله.

في عشرينيات القرن العشرين، اشتكى حسن البنّا، مؤسسُ جماعة الإخوان المسلمين، من موجة الإلحاد والخلاعة التي كانت تجتاح مصر، فالأوربيون، كما يقول: "أسسوا مدارسَ ومعاهدَ علميةً وثقافيةً في قلبِ الجسدِ الإسلامي تقوم بزرع الشكِّ والبِدَعِ في نفوس أبناء الأمةِ الإسلاميةِ". 20

بحلول سنة 1994 تحوّل اللوم إلى القنوات التلفزيونية الفضائية؛ حيث حذّرتْ وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في الحكومة الإيرانية من أنّ "هذه البرامج من تدبير الإمبريالية العالمية كجزءٍ من خطةٍ شاملةٍ للقضاء على ديننا وقيمنا المقدسة." 21 غير أنّ معظم اللوم اليوم يُلقى على الإنترنت حيث يُزْعَم أنه ذو قدرةٍ كبيرة على نشر الإلحاد، وتمّ أخذ ذلك كحجةً للتحكم بالفضاء الرقمي، ومعاقبة أولئك الذين يسيؤون استخدام الإنترنت ضد الدين.

يُعتبر الإنترنت أداةً ثمينةً للملحدين ولمجموعات أخرى من المعارضين في الشرق الأوسط؛ حيث يُتيح الوصول إلى أفكارٍ ومعلوماتٍ لا يمكن الوصول إليها محلياً بأية طريقةٍ أخرى، كما أنّ الإنترنت يُمكّن الأفراد من التعبير عن أفكارهم علانيةً، بالإضافة إلى تمكينهم من التواصل مع الآخرين؛ إمّا عن طريق الدخول في نقاشاتٍ معهم، أو من خلال التواصلِ مع أفرادٍ لديهم العقلية ذاتها؛ ويحصل هذا التواصل في الشرق الأوسط غالباً خارج حدود القيود الحكومية؛ مفسحاً بذلك المجالَ للجميعِ بصرفِ النظرِ عن حدودِ المكان أو الوطن.

مما لا شكٌ فيه أنّ شبكةَ الإنترنت هي من الأسباب الكثيرة التي سهّلت انتشارَ الفكر الإلحادي، غير أنّ أصحاب هذا الفكر لا يرون في الإنترنت بحد ذاته السبب في انتشار تلك الأفكار، وإنما مجرّدُ وسيلة. إنّ الجهد المبذول لمحاربة الفكر الإلحادي على شبكة الإنترنت لن يعالجَ أسباب التشكيك بالدين، بل قد يؤدي إلى إثارة المزيد من الفضول لدى أصحاب هذا الفكر، كما أنه لن يسعى وراء تلك المواد الإلحادية إلا أولئك الذين يشعرون أنّ فيها ما يتفق مع أفكارهم؛ أضف إلى ذلك محاولات فرض الرقابة خشية أنْ لا يستطيع الدين الفوز بالنقاش بالمنطق والدليل وحدهما.

يعزو رئيس قسم الإعلام في قناة العربية ناصر الصرامي المشكلةَ الأكبر إلى "المواقف التقليدية" والعجز عن تلبية متطلبات الحاضرِ والأجيال الشابة وعدم تقبل الأفكار الجديدة، والاتجاه بدلاً من ذلك نحو القمعِ ولومِ حريةِ التعبيرِ التي ينادي بها الملحدون. يقول الصرامي:

"لم تأتِ مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بأيّ جديد، بل كشفت ما كان خفياً عنا بسبب طبيعة ثقافتنا أو مستوى وعينا الثقافي والاجتماعي. إنّ موقعي فيسبوك وتويتر جعلا المجهول معلوماً، كما وفّرا منصةً يستطيع الناس من خلالها التعبيرَ عن مشاعرهم؛ كما أنه لا يوجد تضليلَ فيها ولا رقابة، وهذه هي لحظة بروز الحقيقة التي كنا نتفادى مواجهتها." 22

إحدى النقاط الأخرى الجديرة بالملاحظة هي أنّ كمية المواد المنتشرة على الإنترنت والتي تعبر عن الإلحاد تعتبر قليلةً إذا ما قورنت بالعدد الكبير من المواقع الدينية ومنها المواقع الإسلامية والمسيحية التي تتجادل فيما بينها حول فكرة أيُّ الأديان هو الدين الحق.

ترى الأستاذة في قسم الأدب الإنكليزي في جامعة الإسكندرية في مصر عُميرة نويرة أن شبكة الإنترنت سلاحٌ ذو حدّين، فقدِ انتشرت بواسطته الكثير من المذاهب والمعتقدات الدينية التقليدية، كما أنّ الإسلاميين وجدوا في الإنترنت مساحة لصوتهم، وهناك عدد كبير من المواقع الإلكترونية التي تدافع عن الآراء المتزمتة والمحافظة.

أقبلَ المسلمون على استخدام الإنترنت بسرعة كبيرة رغم تحذيرات المحافظين ونهيهم عن الاختراعات الحديثة، وفي السنوات الأولى وجد المسلمون صعوباتٍ تقنية في كتابة صفحات الإنترنت باللغة العربية؛ وبحلول سنة 2000 أصبح لدى أغلب الحركات الإسلامية المعروفة؛ كحركة حماس، وطالبان والكثير من المجموعات والأفراد الأقل شهرةً وجودٌ على شبكة الإنترنت، وأحد أسباب ذلك هو اعتبار هذا النشاط نوعاً من أنواع الدعوة، والتي يعتبرها الكثيرون واجباً دينياً، كما أنّ بعضهم أثارته فكرة تمكن شبكة الإنترنت في يومٍ من الأيام من جمع مليار ونيف من المسلمين حول العالم في مجتمع ديني واحدٍ، أو "أمة رقمية" بشكل لم يحدث منذ الأيام الأولى للإسلام. 23

بدأ الشكوكيون (أو المشككين) العرب بالظهور إبّان تطور مواقع التواصل الاجتماعي، ويقول سلطان سعود القاسمي، وهو أَحَدُ كتابِ الصحفِ الإماراتية البارزين:

"قبل عقدٍ من ظهور فيسبوك وتويتر، كان برنامج "بالتوك" قد انتشر في دول الخليج انتشارَ النار في الهشيم وذلك سنة 1998، فقد كان يقدم خدمة الدردشة بالصوت والصورة؛ وما هي إلا أسابيع حتى برزت عدة غرف دردشة في البرنامج كغرفة "الإنسانية" التي كان يشرف عليها كويتي، وغرفة "غير المتدينين"، وكان الغرض من هاتين الغرفتين مناقشة مواضيع محددة. كما أن أحمد بن قريشان، وهو ملحد إماراتي وواحدٌ من المدونين البارزين في الخليج كتب أن "جميع الديانات تكذب" وأن "بإمكان العلمانية تحرير الناس." 24

يوجد اليوم نحو مائة صفحة على موقع فيسبوك تحتوي على كلمة ملحد في عنوانها، بالإضافة إلى عشرات الصفحات التي تستخدم عبارة الملحدين العرب باللغة الإنكليزية، وتتنوع هذه الصفحات بين النشطة وغير النشطة، كما أنّ لبعضها الآخر آلافاً من المتابعين، إضافةً إلى عدد من المجموعات المغلقة أو الخاصة.

أما خارج حدود الشرق الأوسط، فتمتلكُ منظمات المسلمين السابقين في أمريكا الشمالية وإنكلترا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا ونيوزيلاندا والدول الإسكندنافية مواقع إلكترونية خاصةً بها؛ بالمقابل، يملك الملحدون الذين تم نفيهم مؤخراً كوليد الحسيني وقاسم الغزالي وألبير صابر مدوناتهم الخاصةَ بهم أيضاً.

مِن نتائج هذا النشاط على الإنترنت شعورُ الملحدين في الوطن العربي بأنهم أقل عزلةً من ذي قبل؛ يمكنهم أن يستجمعوا شجاعتهم ويتصلوا بالآخرين، رغم أنّ كثيراً منهم ما زالوا يخشون ذلك.

في مقابلة أجراها "ويليم باور" في صحيفة "Your Middle East" مع أحد الملحدين السعوديين، قال الملحد: "إنّ موقعي فيسبوك وتويتر جعلا العثور على أناسٍ يمكن النقاش معهم، فضلاً عمّن لديهم اهتمامٌ بالقيم العلمانية، أمراً سهلاً "، مضيفاً أنّه شعر بالصدمة عندما قابل أشخاصاً في الأربعينيات والخمسينيات من العمرِ كانوا قد كتموا إلحادهم لعقود، حين قالوا: "إنهم لم يتمكنوا من العثور على أشخاص يشاطرونهم فكرهم سوى في الفترة الأخيرة حين التقوا بالأجيال الشابة ممّن هم في العشرينيات من عمرهم، كما أنهم وجدوا مجموعاتِ تواصلٍ اجتماعيّ يستطيعون من خلالها مناقشة أفكارهم والبوح بها." 25

وصفت صحيفة "أسوشييتد بريس" حالة نموذجية في مصر بقولها:

"صرّح مهندس مصري وُلِدَ مسلماً، ويبلغ من العمر 40 عاماً لصحيفة "أسوشييتد برس" بأنه اعتنق الفكر الإلحاديّ فترةً طويلةً، لكنّه أبقاه طيّ الكتمان؛ لكن ما دعت إليه الثورة المصرية من إجراء تغييرات جذريةٍ في البلاد شجعه على البحث عبر الإنترنت عن آخرين يؤمنون بما يؤمن، وفي هذا يقول هذا المهندس: "قبل الثورة، كنت أعيش في عزلةٍ كاملةٍ ولم أكن أعرف أيَّ شخصٍ يفكر كما أفكر، أمّا الآن فنملك من الجرأة ما لم نكن نملك." 26

ويوضح تقرير الصحيفة من خلال حالة المهندس "الحدود التي يحق للملحد الوصول إليها،" وكأغلب الذين قابلَتْهم صحيفةُ "أسوشييتد بريس"، استخدم المهندس اسماً مستعاراً خوفاً من الانتقام أو التعرض للمضايقة أو الوقوع في مشاكل مع عائلتهِ، كما أنّه لا يكشف عن هويته الحقيقية إلا على شبكة الإنترنت.

ترى مجلة "إيكونيميست" أن مواقع التواصل الاجتماعي توفر لغير المؤمنين قدرة كبيرة على التأثير، لكنّها في نفس الوقت تمنحهم من الشهرة ما يجعلهم أكثر عرضة للخطر، فأغلب منْ لديهم نشاطاتٌ في الإلحاد على الإنترنت واجهوا مشاكلَ جمّةً، واعتُقِلَ بعضُهم بتهمةِ الإساءة للدين. وتعتقد المجلة أنّ السبب الرئيس لذلك هو غياب التسامح الديني، وتضيف: "في خمسينياتِ وستينياتِ القرنِ العشرين سادت العلمانية والتسامح الكثيرَ من الدولِ الإسلامية، لكن الدين في يومنا هذا طغى على الحياة العامة والحياة السياسية." أمّا سامي زبيدة وهو باحث في كلية "London’s Birkbeck College" فيتحدث عن تزايد حدة الاستقطاب في هذه الدول، فهناك ازديادٌ في التدين من ناحية وتزايدٌ للإلحاد والعلمانية في الناحية الأخرى. 27

واجه الملحدون العرب الذين ينشطون على الإنترنت خطرَ انتقام السلطات؛ كما تعرضوا للمضايقات من قبل الناشطين المسلمين الذين راحوا يخترقون صفحات هؤلاء الملحدين، أو استخدموا ميزة "الإبلاغ عن إساءة" الموجودة في مواقع التواصل الاجتماعي.

يقول الكاتب السويدي الملحد باسم البغدادي، وهو من أصول عراقية:

"لقد تم تدمير شبكةَ الملحدين العرب ومجموعات النقاش الأخرى وحُذفت بشكلٍ ممنهجٍ بفعل الحملات المنظمة التي شنها الإسلاميون على موقع فيسبوك من أجل الإبلاغ عن هذه الصفحات وعن الملفات الشخصية للمشرفين عليها،" ويضيف البغدادي أنَّ حساباته الشخصية على فيسبوك وتويتر تم تعطيلها عدة مرات بسبب هذه التبليغات، كما أنَّ الكثير من مقاطع الفيديو التي تمَّ رفعها على يوتيوب قد حُذفت بسبب محتواها.

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر ويوتيوب وفيسبوك منذ سنة 2010 نشاطاً محموماً من قبل مجموعاتٍ إسلاميةٍ متطرفةٍ أو سلفية كان لها طريقتان في التعامل مع صفحات الملحدين، فهي إما أنْ تقوم باختراق هذه الصفحات وتدميرها، أو تقوم بحملاتٍ منظمةٍ للإبلاغ عنها، حيث يقوم أفراد تلك المجموعات، وبشكل مستمرٍّ، بالتبليغ عن حساباتٍ أو مقاطعِ فيديو ممّا يؤدي إلى تعطيل الحساب أو حذفِ المحتوى من موقع التواصل الاجتماعي تلقائياً بسبب التبليغ عن محتواه." 28

بالرغم من ذلك استطاعت شبكة "الملحدين العرب" النجاةَ، لتصبح إحدى أكثر المواقع الإلكترونية شهرةً من نوعها. 29

إضافةً إلى ذلك، لجأ الناشطون الملحدون مؤخراً إلى الفيديو، حيث أنَّ "قناة الملحدين العرب" على يوتيوب (Arab Atheist Broadcasting) تقدم برنامج نقاش مدته ساعتان، تُعرَضُ منه حلقة واحدة يوم الجمعة من كلّ أسبوعين، يتبادل من خلاله الملحدون النقاش باستخدام برنامج "سكايب"، وتراوحت مشاهدة مقاطع الفيديو الشائعة ما بين حوالي 3000 إلى 4000 مشاهدة 30، وهناك أيضاً البرنامجُ الحواري "البط الأسود" Black Ducks" " الذي يقدمه ويخرجه اسماعيل محمد، وهو ملحد مصري، فيقول اسماعيل أنَّ الهدف من البرنامج تشجيعُ الملحدين وغيرِ المتدينين المصريين على الظهور للعلنِ وإخبار العالم بتجربتهم، وسببِ إلحادهم وكيف حدث ذلك 31، مضيفاً أنّ اسم البرنامج اشتُّقَ من قصة "هان كريستيان أندرسون"Hans Christian Andersen " التي تدور أحداثها عن "البطة الصغيرة القبيحة" التي كانت تُهاجَمُ وتتعرضُ للإساءةِ حتى كبرت بشكل تدريجي لتتحول إلى بجعة بيضاء جميلة.

يوجد في الأردن مجتمعٌ صغير من الملحدين يتواصلون قيما بينهم عن طريق مجموعة على موقع فيسبوك، وقد أُسِّسَتْ هذه المجموعة سنة 2013، وكان فيها 30 عضواً فقط، ليرتفعَ العدد في عامٍ واحدٍ إلى 100 عضو، وتتراوح أعمار أعضاء المجموعة بين 16 و 44 عاماً، وتبلغ نسبة الإناث فيها نحو 40%. يقول مدير المجموعة محمد خضرة: "إن بعض أعضاء المجموعة ملحدون منذ سنوات، في حين تحول بعضهم إلى الإلحاد منذ فترة قصيرة،" ويضيف خضرة: "إنه يعرف نحو 100 ملحد أردني آخر أو أكثر ممن لم ينضموا إلى المجموعة،" ويرى أنّ السبب المانعَ من ذلك أنَّه "ما يزال في الأردن متعصبون، حين يتعلق الأمر بالسياسة أو المثلية الجنسية...الخ"، ولذلك حاول خضرة أنْ يجمع من الناس ذوي العقول المنفتحة، كما أنه يعلم أنّ إلحادَ شخص ما لا يغير عقليته كلياً بالضرورة، فلا يزال هناك مِنَ الملحدين مَنْ لديهم خوفٌ شديدٌ من المثلية الجنسية، كما أن بعضهم شديدو التطرف في آرائهم السياسية حسب رأيه.

رغم أنّ خضرة كان مستعداً للتعريف عن نفسه في المقابلة حين قال: "وصلت إلى مرحلة لم أعد أكترث فيها لشيء،" إلا أن أعضاء المجموعة بمجملهم ظلوا مجهولين، فغالبيتهم يخشون على عملهم وعلى أسرهم.

على المستوى الحكومي يعتبر الأردن أقل تشدداً من المملكة العربية السعودية في موضوع الإلحاد، رغم أنَّ من يرتدُّ عن الإسلام يُعاقَبُ بالحرمان من الحقوق المدنية أو السّجن بتهمة الكفر، لكنّ المجتمع والأسرة هما المشكلة الرئيسة في الأردن، فالإلحاد، حالُه حالُ الرذيلة، يُعتَبَرُ "جريمةَ شرف" في بعض العائلات وُيعاقَبُ مرتكبوه بالموت قتلاً على يد الأقارب خاصةَ إذا كان الملحد أنثى.

أحد الملحدين، وهو أيضاً مثليّ الجنس وسبق له أن عمل إماماً في أحد المساجد، استطاع الفرار من الموت بأعجوبة بعد ظهوره في برنامج "البط الأسود"، وتكلم فيه عن حياته الجنسية والدينية 32. يقول خضرة: "لقد حال بينه وبين الموت ساعات قليلة، حيث استطعنا بمساعدة أعضاء المجموعة ووالدته إخراجه من منزله ونقله إلى لبنان." ويضيف خضرة:

"خَسِرَ أحدُ أصدقائي زوجته عندما أخبرها بأنه ملحد، وأنا نفسي خسرتُ خطيبتي بعد أن صارحتها بإلحادي، لم أستطع الكذب عليها، لذلك أخبرتها بأنني لست مسلماً. تقبلت ذلك بادئ الأمر لكن بعد عدة شهور قالت لي: أنت لا تصلي، أنت لست مسلماً، لذا فلابد أنْ تكون أخلاقك سيئة، وهذه كانت نقطة الخلاف الرئيسة، والتي يُنظَرُ فيها لغير المسلم على أنه سيِّء الخُلُق، أو أنَّ مَنْ كان ملحداً فإنه يعيش كالبهائم. هذه هي نظرتهم إلينا حتى سُئلت عدة مراتٍ: "لِمَ لا أنام مع والدتي؟"

في هذه الأثناء، كان على الحكومة الأردنية أن تهادن المعارضة الإسلامية باستلطافهم بين الفينة والأخرى، يضيف خضرة:

"كلما أرادت الحكومة استلطافَهُم في أيةِ قضية تقوم بمحاكمة أحدٍ ما بتهمة الكفر، فقد سجنت الحكومةُ الأردنيةُ الشاعر المسلم إسلام سمحان بعد أن قدمت المعارضة ادعاءاتٍ ضدّه، وتقوم الحكومة بذلك لإبقاء الأمور تحت السيطرة من خلال عدم تلبية مطالب المعارضة الكبيرة لتطبيق الشريعة الإسلامية وإنما تلبية المطالب الصغيرة منها."

تم اعتقال سمحان بتهمة "الإساءة للأنبياء" بعد نشره شعراً اعتبرته المعارضة تجديفياً. 33

يُعتبر تقديم الدعم هو إحدى مهمات المجموعة الأردنية على موقع فيسبوك، إضافة إلى مناقشة الإسلام والحركات الإسلامية بشكل عام والإسلاميين بشكل خاص، يضيف خضرة:

"إنّ الإسلام ليس تهديداً بحدّ ذاته، فأنا لا أحارب الإسلام بل أحارب الإسلاميين (أي الإسلام السياسي)، رغم أنني أختلف مع المسلمين لكن ليس عندي مشكلة مع إيمانهم بما يرغبون. يمكن للإسلام أو أيّة ديانة أخرى أنْ تسبب الضّرر لأي مجتمع؛ ولكن التهديد الرئيس يكمن في الإسلام المتشدد، ووقوع ترسانةٍ نوويةٍ بيد حاكم متشدد دينياً يكفي لإثبات وجهة نظري، وتعتبر فكرة أنّ الله يريد أمة تمثِّلُه ويأمرها بقتل وتدمير باقي البشرية، هي أخطر ما اشتملت عليه العقيدة الإسلامية، وهذه الفكرة هي ما يعمل لأجلها الإسلاميون اليوم."

غير أنّ خضرة لاقى بعض التشجيع من قبل الكثير من المجموعات الملحدة التي تنمو في دول أخرى من المنطقة حيث يقول: "المجموعات المشابهة لمجموعتي منتشرة في كل مكان الآن، وفي حال استطعنا إبعاد جماعة الإخوان المسلمون عنا ودافعتْ عنا الدولة الأردنية فسوف تجدنا منتشرين في كل مكان، وحتى ذلك الحين علينا أن نبقى في الخفاء." 34

أما "مكتبةُ الملحدين العرب" فهي عبارةٌ عن صفحةٍ على موقع فيسبوك تتيح التحميل المجاني لكتب من بينها ترجمات عربية لمؤلفات "باروش سبينوزا"، و"سيفن هوكنغ"، و"هانا آرنت"، و"بيرنارد راسل"، و"كارل ساغان" و"ريتشارد دوكنز" 35، وكان الملحد العراقي المولد بسام قد ترجم كتاب "دوكنز" المشهور "وَهْمُ الله" ونشره على الإنترنت، وتحوي المكتبة الرقمية آنفة الذكر كتباً لمؤلفين عرب من بينهم الباحث العلماني الجزائري محمد أوركان والفيلسوف المصري مراد وهبة والباحث فرج فودة العدو اللدود للإسلاميين المصريين والذي اغتيل سنة 1992.

أعطت المكتبة فرصةً للعرب كي يصلوا إلى الكتب والأفكار المعارضة للنظام القائم وهو ما يصعب توفيره بأية وسيلة سوى عبر شبكة الإنترنت. بعض هذه الكتب ألّفها كتّاب أجانب وربما تخطت حاجز الرقابة، بالإضافة إلى كتب أخرى قديمة متوفرة على الإنترنت، ولكنها غير متاحة ورقياً حيث إنها كُتبت بواسطة العرب في أزمنة أكثرَ تحرراً، ورغم أنّ هذه الكتب تنشر على الإنترنت دونَ مراعاةٍ لحقوق الملكية الفكرية، إلا أنّ الباحثة عميرة نويرة من جامعة الإسكندرية تشعر بالرضى إزاء ذلك حيث تقول:

"كثيرٌ من الكتب الورقية غير المتوفرة في المكتبات متوفرةٌ على الإنترنت مجاناً، فعادة ما يقوم أشخاص طيبون بتحويل هذه الكتب إلى كتب الكترونية بواسطة الماسح الضوئي ومن ثم ينشرونها على الإنترنت، وبعض هذه الكتب غير متوفرة بحلتها الورقية في المكتبات، وأعتقد أن هذا أمرٌ جيد، بالرغم من أنّه عملٌ غير مصيبٍ من الناحية الأخلاقية، فبعض الكتب التي تم تأليفها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين غير متوفرة في المكتبات، ولا يمكن العثور عليها في أي مكانٍ سوى شبكة الإنترنت، وهذا شيءٌ عظيمٌ لأننا لو أردنا شراء نسخة ورقية منها لن نستطيع ذلك، لا أعرف إنْ كان انتشار الكتب على الإنترنت سوف يغيّر عقلية الناس، ذلك أنَّ هذا الأمر لم يحدث من قبل، فعندما كنت شابةً كنّا نذهب إلى القاهرة خصّيصاً لشراء الكتب أو انتظار معرض الكتب، أمّا اليوم فأنا لست مضطرة إلى الذهاب إلى أي مكان، وأتساءلُ عن التأثير الذي سيحدثه ذلك في مسائلِ الإيمانِ والإلحادِ على المدى الطويل."

أما عمر هادي، الملحد السعودي، فيعتقد أنْ هذا الأمر سيكون بالغُ الأثر، فرغم وفاة فرج فودة منذ أكثر من 20 عاماً، فإن كتاباته اللاذعة ماتزال حيةً على الإنترنت، ويقول هادي: "ما عليك سوى الذهاب إلى موقع تويتر لتجد ما قاله فرج فودة وقد تم اقتباسه مراراً وتكراراً، وتأثيره لم يندثر بموته، وعندما تُذْكَرُ مقولاته أمام المتدينين تجدهم عاجزين عن الرد عليها باستثناء اقتباساتٍ لآياتٍ من القران."

لا يُعتبر فودة الوحيد في هذا المجال، فقد تشجع هادي وعاد إلى القرنِ العاشرِ وإلى المتنبي الذي يعتبره الكثيرون أفضل الشعراء العرب. يقول هادي:

"إنّ "للمتنبي" عبارة رائعة ينتقد فيها هوس رجال الدين بالمظاهر وكيف أنّ باقي الأمم سوف تضحك علينا لأن همنا الوحيد هو حلق شواربنا وإطالة ذقوننا 36، كما أنّ لدينا أشياءَ أخرى مثل لعنتنا الكبرى وهي اعتقاد مجموعةً من الناس بأن الله لم يعطِ الحكمة لسواها، وتُظْهِرُ مثلُ هذه الأحاديثِ المأخوذةِ من التاريخ الإسلامي أنَّ نوعاً من المقاومةِ كان دائمَ الحضور."

الفصل الثاني


الإشعار القانوني

تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com

ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا:

https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode