Arabs Without God: Chapter 2

الفصل السادس: امتيازات الدِّين
الفصل السابع: مسلمٌ للمرة الأولى مسلمٌ دائماً
الفصل الثامن: الحقّ في الإساءة
الفصل التاسع: طعمُ الحريّة؟
الفصل العاشر: سياسات الإلحاد
المصادر والملاحظات
مقدمة
الفصل الأول: إنكار الله وهدمُ المجتمع
الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي
الفصل الثالث: كتابُ الله
الفصل الرابع: خسارتهم لِدينهم
الفصل الخامس: الإلحاد والجنس

الفصل الثاني: الإلحاد في التاريخ العربي

لا يوجد في اللغة العربية مرادفٌ دقيقٌ للكلمة الإنكليزية "atheist" والتي تعني (ملحد)، فكلمة "ملحد" في اللغة الإنكليزية مشتقة من كلمتي (a = غير) و( theos= إله) في اللغة الإغريقية القديمة، وتشير صراحةً إلى عدم الاعتقاد بوجود الله أو الآلهة، أما المصطلحات العربية التي شاع استخدامها اليوم كـمصطلحي "ملحد" و"الإلحاد" فلها دلالاتٌ أكثر فيما يخص الانحراف عن طريق الإيمان، فكلمة ملحد لا يُقصد بها الملحدون فقط، بل تشمل المرتدين والمهرطقين أيضاً، مما يجعل البحثَ في تاريخ الإلحاد العربي أمراً صعباً، غير أنّ هذا يوحي بأنّ من انتقد الدّين من العرب في الماضي لم يكن يعنيهم الإيمان بالله أو عدمه فقط.

على مرّ التاريخ العربي تجاوز الخوف من الملحدين الحدّ مقارنةً بعدد الملحدين حينها، فرغم قلّة عدد الملحدين المعروفين، إلى حدٍ ما، في التاريخ الإسلامي، إلا أنّ كثيراً من الأطروحات الجدلية العربية هاجمتْ من كان ينكر وجود الله دون ذكر أسمائهم، حيث يُعْتقَدُ أنَّ أقدمَ عملٍ من هذا القبيل هو كتاب "الردُّ على الملحد" للقاسمِ بنِ ابراهيم، وهو عالمُ دينٍ من الطائفة الزيدية عاش في القرن التاسع الميلادي، وكان شديدَ الحرص على أنْ يستقيمَ المسلمون على الطريق القويم، فألّف كتابين في نفس الموضوع، هما "الإثبات الصغير" و"الإثبات الكبير" يُعلِّم فيهما قُرَّاءَهُ "الردَّ على المهرطقين والملحدين إذا ما طَلب هؤلاء دليلاً على وجود الله".

كتبت "ساره سترومسا "Sarah Stroumsa في كتابها "المفكرون الأحرار في العصور الإسلامية الوسطى":

"من الطبيعيِّ أن نستدلَّ من كلام القاسم على أنَّ المهرطقين والملحدين المقصودين هنا هم من أنكروا، أو على الأقلَ شكّكوا، بوجود الله، وأن القاسم كان قلقاً من قدرةِ هؤلاء الملحدين على الإقناع، غير أنّ خصومه الفعليّين فيما يخصُّ مسألة وجود الله لم يكونوا أفراداً بعينهم، بل ذكرهم كفئاتٍ كالمهرطقين والملحدين والماديين والمشكِّكين، دون أنْ يميز بين هذه الفئات بشكلٍ واضحٍ؛ وعبثاً نبحث اليوم عن اسم شخصٍ بذاته متهمٍ بالجحود بوجود الله، فلقد ظلوا مجهولين. أمّا إذا ما برز اسمٌ ما للعلن، فهو حتما لشخصٍ متهمٍ بهرطقةٍ سيئة كالإلحاد، أو ما يؤدي إليه كما يقول علماء الدّين، وليس لشخصٍ شكّل الإلحاد صُلب الهرطقة التي اتُّهِمَ بها." 1

رغم أنّ المفكرين الأحرار كانوا موجودين فعلاً في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، إلا أنّ "سترومسا" تتساءل فيما إذا كان وصْفُ هؤلاء بالملحدين دقيقاً؛ فالتفسير الأكثر قبولاً هو أنّ للمفكرينَ الأحرارِ في ذلك العصر أولوياتٍ مختلفةً للعمل، لم يكنِ العِلم قادراً حينها على تقديم أفكارٍ بديلة عن أصل الكون أو تطور الأنواع، ولذلك لم يكن من المنطقيِّ التشكيكُ بوجود الخالق؛ فكان الطَّعن بالأنبياء والوحيِ الإلهيّ في ذلك الوقت ملائماً أكثر، وهذا ما فعلوه.

تقومُ الشهادتان على عنصرين أساسيين هما: رفضٌ قطعيٌ للشركِ بالله، لا هوادةَ فيهِ (لا إله إلا الله)، وإقرارٌ بأنّ (محمداً هو رسول الله) خاتَمُ الأنبياءِ، وإنْ لم يكنِ الوحيدَ في الإسلام، وآخرُ مَنْ كُلِّفَ برسالةٍ سماويةٍ إلى البشرية جمعاءَ، كما أنَّ الإسلام يعترف بأنبياء الديانات السماوية الأخرى كاليهودية والمسيحية، بمنْ فيهمُ السيِّد المسيحُ، حيث يذكر القرآن الكريم أنه " وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (سورة فاطر: الآية 24)." لكن في المقابل لا يعترف أتباعُ الديانتين اليهوديةِ والمسيحيةِ بمحمدٍ كنبي.

في خضمِّ ادعاءاتٍ للنبوة المختلَفِ فيها، أصبح التمييز بين الأنبياء الحقيقيين منهم والمدَّعينَ، بالنظر في حججهم وبراهينهم، مسألةً مهمةً لذوي الميول الدّينية وللذين كفرو بجميع الأنبياء، وفي ذلك كتبت "سترومسا":

"وفي سعيهمُ الرامي إلى زعزعة ثقة الناس بمسألةِ النبوة، اتَّخذَ المفكرون الأحرار عدة اتجاهات؛ فمن الناحية النظرية، حاولوا إثبات أنّ النبوة، كفكرةٍ، أمرٌ لا يقبله العقل، ومن الناحية الجدلية، سعى هؤلاء إلى إظهارِ كلِّ من ادعى النبوةَ على مدى التاريخ مظهرَ المتلاعب المحتال. "

يرتبط الإسلام بالنبوة أكثر من المسيحية واليهودية بكثير، فتقول "سترومسا" إنَّ ظهور المفكرين الأحرار الرافضين لفكرة النبوة يدل على موقع النبوة المركزي والمهم في الفكر الإسلامي.

أُطلِقت تسميةُ ملحد على شخصيتين بارزتين في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وهما ابن الراوندي وأبو بكرٍ الرازيّ وكلاهما فارسيان رغم أن الراوندي عاش فترة من الزمن في بغداد، وكان بينهما اختلافٌ كبيرٌ في طبيعة كل منهما، فعلى ما يبدو، لم يكن الراوندي يخجل من هذا الأمر رغم اعتباره فضيحة، بينما كان الرازيّ عالماً رصيناً وموقراً؛ وقد لخّص الفيلسوف الوجوديّ المصريّ عبد الرحمن بدوي، الذي عاش في القرن العشرين، وجهتي نظرهما على أنها "عقلانية إنكار النبوة"، ورأى أنّ فرضيتهما المشتركة كانت تقوم على أنّ المنطق (أو العقل) كافٍ لتمييز الخير من الشر، لذا لم يكن هناك حاجة لإرسال الرسل الربانيين. 2

ويروي بدوي أنّ الراوندي وصف القرآن بأنه "كلامُ مخلوقٍ لا يعرف الحكمة"، وأنه أنكر معجزاتِ كلٍّ من إبراهيم ومحمد والمسيحِ، واعتبر أنها مجرّد حيلٍ لا أكثر؛ أما انتقادات "الرازيّ" للنبوة والوحي فقد اختفت، ولكنها كانت ظاهرةً في عناوين كتبه التي دارت حول "محتالو النبوة" و"دحض الأديان"، ورغم أنَّ اهتمامه كان ينصبُّ على الإسلام، إلا أنَّه هاجم المسيحية واليهودية والزرادشتية والمانوية، ويبدو أنه ناقش فكرة أنْ لو كان الله حكيماً حقاً، ما كان ليخُصَّ أناساً بالنبوة دون سواهم ثمَّ يؤيدهم بالقدرة على التأثير على الآخرين، ومن ثم يحرّض أتباعَهم للاقتتال فيما بينهم.

كان الرازيّ على ما يبدو مؤمناً بالله حكيماً رحيماً، لكنَّ صراعه كان مع فكرة النبوة والأديان السماوية والتعصب والاستبداد الذي قد ينجم عنها، فهو يرى أنّ الإله الحكيم يسيّر الكون بطريقة مختلفة. وقد نُقِل عن الرازيّ قولُه:

"ينبغي أن يكون السلوك الأنسب للحكيم هو الحكمة وللرحيمِ الرحمةُ وذلك بأنْ يلهم جميع عباده معرفة كلِّ ما ينفعهم ويضرهم في الدنيا وفي الآخرة؛ لا أنْ يفضِّلَ بعضَهم على بعض، فيكون بينهم تنافسٌ وخلافٌ يكون فيه هلاكهم.

"كان أتباع الأديان السماوية قد تعلموا دينهم باتباع سلطة قادتهم، فيرفضون عامل الملاحظة العقلية، والاستفسار عن العقائد الأساسية للدين، يقلصونها حيناً، ويحرّمونها حيناً آخر، متوارثين بذلك عاداتِ قادَتِهم، مما اضطرهم إلى الامتناع عن التكهنات بالمسائل الدّينية، فيوسمُ بالكفر من تجرأ على مخالفة تلك التقاليد". 3

كان من بين المفكرين الأحرار في عهد الخلافة العباسية الشاعرُ الكفيفُ أبو العلاء المعرّي (973-1057م)، شاعرٌ لم تترك قصائده – كما يقول "ر. أ. نيكلسون" - "جانباً من جوانب العصر إلا وتطرّقت إليه، حيث قدَّمَ صورةً حيّةً للفساد والانحطاط التي يحتلُّ فيها الحُكام المستبدون والقضاة المرتشون ورجالُ الدّين المنافقون وعديمو الضمير والمنجِّمون المحتالون وحشودُ الدراويش المتنقلة والملحدون القرامطة مقاماً مرموقاً." 4

كان المعرّي من الموحّدين، ولكنه رغم ذلك، كما يرى "نيكلسون"، كان ميّالاً إلى الاعتقاد بأن كلَّ شيءٍ في هذا العالم مسيّر إلى مصيرٍ حتميّ لا مفرَّ منه بواسطة كائن كليّ القدرة، فيه من الأسرار ما لا طاقة لمخلوقٍ بسبرِ أغوارها ولا سبيل للنجاة من قدرته التي فاقتْ كل شيء." وُلد المعري في سوريا قرب مدينة حلب، لكنَّ أفكاره تأثّرت إلى حدٍّ كبير بعد أن أمضى عاماً ونصف في بغداد عاصمةِ الدولة الإسلامية آنذاك، "والتي كان يلجأ إليها الكثير من المسافرين والتجار من المشرق؛ ويوجد فيها من كل عقيدةٍ وطائفةٍ ومذهبٍ، كالمسيحيين واليهود والزرادشتيين والصابئين والصوفيين والمادّيّين والعقلانيّين."5

ولدى عودته إلى مسقط رأسه في سوريا، انتهج المعرّي التقشفَ أسلوباً لحياته، فأصبح نباتياً، لا يأتي النساءَ؛ وكونه كان ممّنْ يرفض فكرة البعث والقيامة، فقد اعتبر الموتَ خلاصاً من مآسي الحياة، وهذا ما دفعه إلى رفض الزواج والإنجاب.

كانت آراء "المعري" تخرجه من الملّة بشكل واضح، وهذا ما ظهر في بعض أبياته:

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللهْ

إثنان أهل الأرض: ذو عقـل بلا ديــن وآخر ديّنٌ لا عقل لهْ

فيسخر هنا من الحج إلى مكةَ حيث على المؤمنين الطوافُ سبعَ مراتٍ حول الكعبة:

سَبِّح وَصَلِّ وَطُف بِمَكَّةَ زائِراً سَبعينَ لا سَبعاً فَلَستَ بِناسِكِ

جَهِلَ الدِيانَةَ مَن إِذا عَرَضَت لَهُ أَطماعُهُ لَم يُلفَ بِالمُتَماسِكِ

ويقول في موضعٍ آخرَ:

إن الشرائع ألقت بيننا إِحَناً وأودعتنا أفانين العـــداوات

رغم سلبيته، كان لدى "المعري" جانب إيجابي أكبر؛ حيث دعا إلى العقلانية والسعي وراء الحقيقة بوصف ذلك مرشداً أخلاقياً.

قد يكون "المعري" محظوظاً إذْ عاش في تلك الحُقبة من الزمن، فلو قّدِّرَ له أنْ يكتب اليوم ما كان يكتبه آنذاك ثم ينشر أشعاره تلك على "فيسبوك" لوجد نفسه في مأزق حقيقي، إما بسبب السلطات، أو بسبب الإسلاميين الذين سيثير ذلك غضبهم. وفضلاً عن سخريته من القرآن، كتبَ المعرّي "رسالة الغفران" مصوراً فيها السماء كأنها صالون أدبيٌّ بوهيمي، يشرح هذا الكتاب كيف تفادى المعرّي النقّادَ، فَضَمَّنَ كتابَه هجوماً صريحاً على المفكرين الأحرار؛ في ذاتِ الوقتِ الذي عبّر فيه عن الأمل في ألا يكونوا بالسوء الذي ظهروا عليه. يعلّق "نيكلسون" على المعرّي قائلاً: "إنَّ شأنَ المعري في هذا شأنُ العديد من الحكماء في بلاد المشرق، ممّن يلجؤون إلى التصنع والتقية كفنٍّ جميل." 6

أنهى المعرّي مسيرته كشخصية تحظى باحترام كبير، على الأقل في مسقط رأسه سوريا، فقد وصفه شاعرٌ فارسيٌّ حين زاره، وكان في السبعينيات من عمره، بأنّه "عين القوم في بلدته؛ وذلك أنَّه كان غنياً يبجِّلهُ أبناء بلدته، ويجتمعُ حوله أكثرُ من مائتي طالب جاؤوا إليه من أنحاءَ شتى لسماع محاضرات له في الشعر والأدب." 7

أمّا عمر الخيّام المولودُ سنةَ 1048 ميلادية، فقد عاش في عصرٍ قريبٍ من عصر أبي العلاء المعري؛ وكان عالم رياضيات وفلك، ورغم أنه فارسيُّ النسب لا عربيّ، إلّا أنَّ شهرته في العالم العربيّ كانت توازي شهرته في الغرب، وغالباً ما كان يَستشهِد الملحدون العربُ بكلامه، ورغم أنه اشْتُهِرَ بكونه عالماً، إلا أنّ اسمه اقترن بالرباعيّات، وهي مجموعة قصائدَ يتغنى فيها بشرب الخمر، ويسخر فيها من المعتقدات الدّينية أحياناً.

اكتسب "الخيّام" سمعته كملحدٍ - ربما عن طريق الخط - بسبب هذه الأبيات الطائشة، فأصبح بذلك واحداً من خمسة وأربعين "كافراً"، ابتداءً بالشاعر الروماني "لوكريتيوس Lucretius" وانتهاءً بالناشط المعاصر "آيان هيرسي علي"؛ وقد وصفه الراحل "كريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens" في كتابه "الملحد الجوال"، قائلاً: "يُشَكِّكُ الخيّامُ صراحةً بفكرة أن الله يتجلّى بذاته لشخصٍ خلافَ بقيّة الناس، لاسيما في ضوء حقيقةٍ واضحةٍ جداً هي أنَّ منْ ادّعَوا تأويلَ الوحي كان جُلّ همّهم استخدامُ ادّعاءاتهم لتحقيق مكاسبهم وفرض سلطانهم على الآخرين، ولم يكن الخيّام أول من لاحظ هذا الجانب من الدّين، لكنّه كان من أكثرهم ذكاءً." 8

لكنْ ثمة مشاكلُ كثيرة في آرائه، فآراءُ الخيّام الدّينيةُ كانت مثارَ جدلٍ وخلافٍ علميّ كبير، فقد اعتبره بعض النقاد صوفياً لا ملحداً، كما لا يُعرف عدد الرباعيات –المقاطع الشعرية الشهيرة - التي يمكن نسبها له، وفي كتابه "البحثُ عن عمر الخيّام" يقول علي دشتي:

"الحقيقة التي لا مفرّ منها هي أنَّ الكُتَّابَ الذين عاصروا الخيّام وعرفوه لم يتكلّموا عنه بوصفه شاعراً، ولم يقتبسوا شيئاً من شعره، أمّا في القرنين اللاحقين لوفاته بدأ عددّ ليس بالكثير من الرباعيات التي كتبها بالظهور في أعمال متنوعةٍ كالسير الذاتية واللاهوتية والتاريخية، حتى وصل مجموعها إلى ستين رباعيةً، وذلك في منتصف القرن الرابع عشر، لكنها أخذت تزداد بشكلٍ مطّردٍ إلى أنْ وصل عددها بحلول القرن السابع عشر إلى ما بين 500 إلى 1000 رباعية، يمكن كشفُ زيفِ كثيرٍ منها فوراً لأسبابٍ لغويةٍ وغيرِ ذلك." 9

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّه يجب التعامل بحذرٍ مع النسخة الإنكليزية الشهيرة المترجَمة "لإدوارد فيتزجيرالد "Edward Fitzgerald، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر، وذلك أنَّ "فيتزجيرالد" أخذَ هذه القصائد الفارسية على أنَّها وحيٌ إلهيٌّ وأعاد ترتيبَها ليوجِدَ من نسجِ خيالهِ يوماً في حياة الخيّام، ليصل من وراء ذلك إلى ما كان يحب أنْ يسميها "تحفةٌ مستقلةٌ تماماً"، فانتهج "فيتزجيرالد" الترجمة الحرة، معيداً صياغة الرباعيات لدرجةٍ يصعب معها معرفة المصدر الفارسي لبعض أبياته.

وبصرف النّظر عمّن كتب الأبياتِ الأصليةَ، ما زالت الرباعيات تثير الاهتمام باعتبارها انعكاساً للأفكار التي كانت سائدة حينها، والتي كانت تُعتبَر مواضيعَ شعريةً مشروعةً حينها، إنّما قد لا يكون هذا حالَها اليومَ، ففي سنة 2013م حُكِمَ على عازف البيانو والملحد التركي الشهير "فاضل ساي" بالسّجن مع وقف التنفيذ إثْرَ اتهامه بالكفر و"التحريض على الكراهية" على خلفية نشْرِهِ عدداً من التغريدات، كان من بينها أبياتٌ لعمر الخيّام: 10

تقول إن أنهار النبيذ تتدفق في الجنة

أجنةٌ هي أم خمارة؟

وتقول إن حوريتين تنتظران المؤمنين؟

أَجَنَّةٌ هي أم بيت للدعارة؟

بحلول القرن التاسعَ عشر بدأت أشكال الإلحاد في العالم الإسلامي تظهرُ بشكلٍ أوضحَ من ذي قبل، وفي ذلك يكتب "ساميولي شيلكي" Samuli Schielke:

"في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وما تلاهما بدأتْ موجةٌ جديدةُ من العِداء للدّين تحظى بالقبول في أنحاءَ مختلفةٍ من العالم الإسلامي، بما في ذلك الإلحادُ، ففي الوقت الذي بدأ فيه الإلحاد بالنمو في ظلِّ الإمبراطورية الإسلامية المزدهرة، جاءت الدورة الثانية للإلحاد في العالم الإسلامي في ظروفٍ مختلفةٍ كليّاً، أي في ظل توسع الامبراطورية الأوروبية، والتي ألقتْ بظلال الشكِّ على التقاليد المتّبعة للمعرفة والتنظيم الاجتماعي والدّين.

"ظهرتْ حرية الفكر والحلقات المناوئة للكهنوتية أولَ الأمرِ في إيرانَ والهندِ والامبراطوريةِ العثمانيةِ، وبين المسلمين في روسيا وذلك في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشر، وكان مِنْ أكثر مَنْ ساهم في ذلك المسيحيون والعربُ المسلمون في الولاياتِ العربيةِ الخاضعةِ للإمبراطوريةِ العثمانيةِ، وحينها ظهرت النزْعاتُ القوميّةُ المعاديةُ لرجال الدّين وللدين نفسه على نطاق أوسع من الحداثة العلمانية." 11

رغم أنَّ كثيراً مما سبق يُعْزَى إلى التأثيرات الأجنبية أثناء فترة الاستعمار، إلا أنَّ "شيلكي" يَستشهِد بدليلٍ من إيران في القرن التاسع عشر كي يشير إلى أنَّ "الإلحاد المعاصر بين المسلمين ليس مجرد نسخة معدَّلة عن الإلحاد في العالم الغربي، إنّما استمد جذوره من التقاليد الأصلية (المحلية) أيضاً والتي تتصف بالهرطقة."

كان اسماعيل أدهم مِنْ أعتى الملحدين المصريّين في ثلاثينات القرن العشرين. وكان كاتباً وناقداً أدبياً من مدينة الإسكندرية، وكتب في سنة 1936م كتاباً يشكّك فيه بصحة ومصداقية الأحاديث النبويّة، وأرسلَ مائة نسخةٍ مجانية من كتابه ذاك إلى علماء الدّين في الأزهر وهو المركز القديم للتعاليم الإسلامية في القاهرة، مما أثار غضب شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي فتقدّم بشكوىً إلى وزارة الداخلية، حُظِرَ بعدها كتابُ أدهم في غضون أيامٍ، وبعد عام من ذلك، ألّفَ كتاباً بعنوان "لماذا أنا ملحد؟"، والذي أثار جدلاً يفوق ما أثاره كتابه السابق وأدّى إلى صدور ردّةِ فعلٍ ملتهبة من المتدينين المؤمنين.

يقول "شيكلي" معلقاً على كتاب أدهمَ الجدلي أنه كان مثالياً في طريقة تقديمه للعلوم كالفيزياء والرياضيات ونظرية التطور على وجه الخصوص كعقيدةٍ جديدةٍ تحلُّ محلَّ العقيدة الدّينية:

"لقد خرجتُ عن الأديان وتخليتُ عن كل المعتقدات وآمنت بالعلم وحده وبالمنطق العلميّ؛ وما أعظمَ ما كانت عليه دهشتي وعَجَبي أّنّني وجدت نفسي أسعدَ حالاً وأكثر اطمئناناً من حالتي حين كنت أغالبُ النفسَ للاحتفاظ بعقيدتي."

وتبيّن بعد ذلك أنّ أدهم رغم هذا كلِّه لم يكن ملحداً فحسبُ، بل وحالماً إلى حدٍّ ما، وربما يُعزَى ذلك إلى خوفه من ألّا تؤخذَ أعماله على محمل الجدّ دون مؤهلاتٍ جامعيةٍ عاليةٍ، فجمع أدهم قائمةً متخيَّلةً من المؤهلات المثيرة للإعجاب وكتبَ على غلاف أحد كتبه عندما كان ما يزال في الخامسة والعشرين من عمره:

"الدكتور ليت (هون)، دكتوراه في الفلسفة والعلوم (موسكو)، ونائب رئيس المعهد الروسي السوفييتي للدراسات الإسلامية، وعضو الأكاديمية السوفياتية الروسية للعلوم، وأستاذ سابق في الرياضيات العالية في جامعة سان بطرسبرج، وأستاذ في التاريخ الإسلامي في كلية التاريخ، إسطنبول."

ادّعى "أدهم" أنّه كتب أيضاً سيرةً ذاتيةً للنبيّ (باللغة الألمانية)، وثلاثةَ مجلّداتٍ في التّاريخ الإسلاميّ بالّلغة التركيّة، ومجلّدين في الرياضيّاتِ والفيزياء (باللغتين الألمانية والروسية 12)، وثلاثة مجلداتٍ عن النظرية النسبية (أيضا باللغتين الألمانية والروسية)، ولم يتضح زيفُ هذه الادعاءاتِ حتى العام 1972م عندما كشفت "مجلة الأدب العربي" عن مقالٍ قالت فيه:

"لم يحصل أدهم على أيّةِ شهادةِ دكتوراه، ولم يكن يوما عضواً في أكاديمية العلومِ، ولم ينشر أيّ كتابٍ أو مقال، لا بالروسية ولا بالألمانية ولا حتى الفرنسية، ولا صحةَ لما قيلَ عن تأليفه مجلّدين باللغة التركية بعنوان "تاريخ الإسلام"، كما ولمْ تكن هنالك أيةُ علاقةِ صداقةٍ بينه وبين المستشرق الروسيّ "بارثولد" الذي توفي سنة 1930م، أي قبل عامٍ من ادعاء أدهم بأنه ذهب إلى روسيا، ولم يتلقَّ أي إطراءٍ من المستشرق الروسي "كازيميرسكي" لأنه لم يكن هنالك شخصٌ بهذا الاسم أصلاً." 13

ويُعتقد بأن أدهم لم يغادر مصر أبداً، وقدْ تمَّ العثورُ عليه ميتاً في البحر سنة 1940م، قبالةَ شاطئ جليم في الإسكندرية منتحراً وقد ترك رسالة في جيبه، وكان حينها في التاسعة والعشرين من عمره.

يُعتبر عبد الرحمن بدوي (1917-2002م) أول فيلسوفٍ وجوديٍّ مصريِّ الجنسيّة، وقد درّس في الجامعات الليبية والكويتية؛ وأكثرُ ما يستحق الذكرَ مِنْ أعماله كتابُه "من تاريخ الإلحاد في الإسلام" الذي كتبه في أربعينيات القرن العشرين، وما زال يُقرأُ إلى يومنا هذا. كانت آراؤه معقدةً، ولكنه دافع في سنواته الأخيرة عن القرآن وعن النبيّ محمّدٍ ضدّ هجمات المستشرقين. 14

أمّا عبد الله القاسمي (1907-1996م) فقد وُصِفَ بشكلٍ غير ملائمٍ على أنَّه عرّابُ الإلحاد في الخليج العربيّ، وكان من تصريحاته: "إنّ احتلال الآلهة لعقولنا هو أسوأُ أنواع الاحتلال؛" وهي مقولةٌ ما زال الملحدون يرددونها إلى يومنا هذا. وُلد القاسمي في أسرةٍ محافظةٍ في منطقة نجدٍ، فيما أصبح اليوم المملكة العربية السعودية، وقد استهلّ مسيرته كأيّ عالِمِ دينٍ عاديٍّ إلى حدٍّ ما؛ بينما تقول بعض التقارير أنّه كان متميزاً في فترة تديُّنه قبل أن يتحول إلى الإلحاد. وشُبِّه القاسمي بابنِ تيميّة عالمِ الدّين الذي عاش في القرن الثالث والذي حَظِيَ بإعجاب الإسلاميين؛ لكنّه طُرِدَ من جامعة الأزهر في القاهرة بسبب أفكاره السلفيّة. 15

جاء في ملحوظةٌ نُشرتْ على موقع "الصحوة الإسلامية" من قبل شخص يتضح أنّه لم يكنْ متفقاً مع إلحاد القاسميّ:

"انكبَّ "القاسميّ" على كتب الفلسفة، وكتب بعد بضع سنين كتباً غريبة عن الحداثة، وعندما حاول شيوخ السعودية إسكاتهُ، اشتكى إلى الشيخ سيّد قطب زعيمِ حركةِ الإخوان المسلمين الذي أُعدِم بأمر من جمال عبد الناصر سنة 1966م. دافع سيد قطب، في بادئ الأمر، عن حقّ القاسميّ في الكلام، إلى أنْ تلقى من القاسميِّ مجموعةَ كتبٍ ومقالاتٍ جديدةً جعلته في حيرة من أمره، أدّت به إلى اتهامه بمحاولة تدمير الإسلام، وقد كان سيد قطب محقاً في اتهامه ذاك.

ارتدّ "القاسميّ" عنِ الإسلام بعد ذلك، عوُرِفَ عن واحدٌ من أبنائه على الأقلّ أنَّه كان قد ارتد عن دينه معه والده وعاش في مصر. لم يُكتبِ النّجاحُ لمحاولة القاسميِّ تأسيسَ حركةٍ إلحاديةٍ سياسيةٍ نتيجةَ وقوف جمال عبد الناصر بوجه ذلك وسجْنه مراتٍ عدة.

أقامَ القاسميُّ بعد ذلك في لبنان فترة من الزمن، وانتسب خلالها إلى "الجمعية الأدبية" وكان يُعامَل كشخصيةٍ اعتباريةٍ هامةٍ، إلى أنِ التقى في آخرَ الأمر بالشيخ ابنِ عقيل الزاهريّ في "جاردن سيتي" في القاهرة، وكان هذا الأخيرُ ذا ميزاتٍ متعددةٍ،، ودار بينهما جدلٌ طويل استمرَّ بين أخذٍ وردٍّ حتى المساء.

كان القاسميُّ يقتبس من كتب "إيمانويل كانط "Immanuel Kant، و"جون ستيوارت ميلJohn Stuart Mill " حرفياً، وكان يغيّر موضوعَ النقاش في كلِّ مرةٍ يستشهد فيها ابنُ عقيل بآراءِ الفلاسفة العلمانيين "الكفار" أنفسِهم والتي تنتقد هذين الفيلسوفين، وذاك أنّ القاسميَّ كان يشكِّك بوجود الله مستنداً في كلامه بشكلٍ أساسيٍ إلى النقلِ الحرفيّ من كتب فلاسفة عصر التنوير، وعصر ما بعد التنوير، وفي كلِّ مرة يوشك فيها ابن عقيل على إقناعه، كان القاسميّ يلتفت إلى موضوعٍ آخرَ يمكنه فيه إثبات وجهة نظره."

ويضيف الكاتب:

"كان وحشاً متغطرساً طوال حياته، ولم يتبْ أبداً، إلى أنْ مات في القاهرة بعد إصابته بالسرطان ميتةً يأمل المرء أنْ تكون بطيئةً وطويلة." 16

رغم وجود كُتّابٍ ملحدين كالقاسميّ والبدوي اللذان كانا قادرين على التعبير عن آرائهما في المواد المطبوعة، إلا أنَّ الجدلَ العربيّ في أمور الدّين منذ منتصف القرن التاسع عشر وما تلاه كان عموماً يهتمُّ بمسألة دور الدّين في المجتمع والسياسة أكثرَ من اهتمامه بمسألة وجود الله من عدمه. ولكي نفهم سبب ذلك، علينا أن نبحث في الخلفيات التاريخية، كانحسار الامبراطورية العثمانية، والهيمنة الأوروبية، وصعود الحركات القومية، والاستقلال النهائي، فقد أصبحت أوروبا على وجه الخصوص موضع إعجابٍ ومصدرَ خطرٍ في آنٍ معاً؛ فقد كان يُنظَرُ إليها، لا كخصمٍ فحسب، بل كَتَحَدٍّ فاتنٍ أحياناً، وفي ذلك كتب المؤرخ ألبرت حوراني:

"أصبحتْ قوةُ وعظمةُ أوروبا، والعلومُ والتكنولوجيا الحديثةُ، والمؤسسات السياسية في الدول الأوروبية، والأخلاق الاجتماعية في المجتمعات الحديثة المواضيعَ المفضلة للكُتَّابِ العربِ، وقد أثارتْ كتاباتُهمْ تلك إشكاليةً أساسيةً تتلخص في كيف للعرب المسلمين والإمبراطورية العثمانية أنْ تواكبَ التطور الذي وصلت إليه أوروبا وتصبحَ جزءاً من العالم الحديث؟" 17

أخذتْ بعض المحاولات البدائية للردّ على هذه الأسئلة طابَعاً مألوفاً، حتى في يومنا هذا، ومثالُ ذلك الإصلاحيُّ التونسيُّ خير الدّين المتوفى سنة 1889م، والذي حذَّر المسلمين من معاداة "ما يستوجب المديح" في الديانات الأُخرى، "وذلك ببساطة لأنهم دأبوا على الدعوة إلى تجنب كلِّ فعلٍ أو عُرْفٍ يصدر عن غير المسلمين." 18 وقد واجه المسيحيون العرب في كلٍّ من سوريا ولبنان كذلك تحدياتٍ من أوروبا، ولكن بوتيرةٍ أقلَّ. يقول حوراني:

"قد تكون السُّلطة الهرميّة للكنائسِ، المعترَفِ بها، والتي تدعمها الدولة، عائقاً أمام حريّة تفكيرهم والتعبير عن أنفسهم، فاتجه بعضهم نحو العلمانية، أو البروتستانتية التي كانت قريبة من العلمانية في مجتمعٍ تتحدد الهوية فيه على أسس الانتماء إلى جماعةٍ دينيةٍ معينة." 19

كان المسلمون منقسمين، فمنهم من رأى الإسلام جزءاً من المشكلة، فسَعَوا لتقليص دوره، بينما رأى الآخرون أنّه يجب تجديده وجعله جزءاً من الحلّ، وقد برز من الفئة الأخيرة جمال الدّين الأفغاني (1839-1897م) ومحمد عبده (1849-1905م) وذلك في القرن التاسع عشر.

حاول الأفغانيّ الذي يُعتَقَدُ أنَّه ينحدر من أصولٍ فارسيّةٍ أنْ يجد سبيلاً إلى تمكين المسلمين من مواكبة العالم المتحضر بشكلٍ لا يُفقدهم وفاءَهم لذاتهم، وقد فعل ذلك من خلال اقتراحِ منهجين للعمل، وصفهما حليم بركات بأنهما "متناقضان، وهما العودة إلى المصادر الأصلية للإسلام واعتمادُ الأفكار والتقاليد الليبرالية الأوروبية، بما في ذلك العلوم الغربية وإقامة حكمٍ دستوريٍّ ووحدةٍ اجتماعيةٍ، وإجراء انتخاباتٍ وتمثيلٍ وطنيّ." 20 لكن الأفغانيّ، رغم اندفاعه وحماسته للعلم، فقدِ انتقد النظرية الداروينية بشدة. وذهب محمد عبده، تلميذُ الأفغانيّ في أفكارِه إلى أبعدَ من ذلك في مسعىً منه إلى التمييز بين المبادئ الأساسية للإسلام، التي كان يعتبرها ثابتةً ودائمة، وبين القوانين والعادات الإسلامية التي يمكن تكييفها، ولكن بحدود، مع الظروف المتغيرة.

أنجبتْ تلك الفترة ذاتُها أولَ المروّجين للقومية العربية، في ردةِ فعلٍ على انهيار الامبراطورية العثمانية في البداية، وبعد ذلك كانت لمواجهة الإمبريالية الغربية. بالإضافةً إلى التشجيع على تعزيز الشعور بالهويّة العربيّة، وليس الإسلاميّة، فأثارتْ قضيةُ القومية حينها تساؤلاتٍ عن الشكل الممكن للحكم الذاتيّ وعن دور الدّين فيه، إن كان له دورٌ أصلاً.

كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1849-1902م) مِنْ أوائل مَنْ طالبوا بفصل الدّين عن الدولة في التاريخ العربي الحديث، فدعا إلى تبني العلمانية وتشكيل حكوماتٍ قوميةٍ تستند إلى مبادئ الديمقراطية والاشتراكية ومبدأ التسامح والتفكير وتحكيمِ المنطقِ، واعتبرَ الاشتراكيةَ هي السبيل للقضاء على الاستبداد، واتّهم المتدينين المقلِّدين "بمحاولة فرض سيطرتهم على المؤمنين السُذّجِ"، وذلك أنهم يستخدمون الدّين "كأداة لإثارة التفرقة" بغية نشر "روح الاستكانة والامتثال." 21

ألغى مصطفى كمال أتاتورك، العلمانيُّ المتشدّدُ، ومؤسّسُ الدّولة التركية الحديثة، الخلافةَ الإسلاميةَ سنة 1924م والتي بدأت بعد وفاة النبي بأيامٍ واستمرّت، ولكن بأشكالٍ وأماكنَ مختلفةٍ، إلى أنْ تبناها السلاطين العثمانيون في القرن السادس عشر. أدى إلغاءُ "أتاتورك" للخلافةِ إلى بروز محاولاتٍ لإعادة إحياء الخلافة في أماكنَ أُخرى؛ رغم اعتقادِ بعضِ المسلمين أنّهم أصبحوا أفضل حالاً بدونها، ففي سنة 1925م تسبَّبَ علي عبد الرازق، وهو شيخٌ من شيوخ الأزهر، بإحداثِ جدلٍ واسعٍ حينَ ألّف كتاب "الإسلامُ وأصول الحكم"، والذي ادّعى فيه أنّ الإسلام لم يحدّد نمطاً محدداً للحكم، وبالتالي فإنّ المسلمين أحرارٌ باتخاذ نظام الحكم الذي يرونه مناسباً، كما رأى أنّه من الخطأ اعتبارُ الخلفاءِ ممثلين عن الله في الأرض، في الوقت الذي كانوا فيه مجرَّدَ قادةٍ سياسيّين لا أكثر، فأعطاهم هذا الاعتقاد الخاطئ مسوغاً لاستعباد رعاياهُم باسم الدّين. وقد طُرِد عبد الرازق حينها من الأزهر بسبب آرائه تلك.

وبالنظر إلى هذه الخلفيّة، فإنّه من غير المفاجئ أنْ ركّزتِ النقاشاتُ في الدّين على القضايا ذاتِ الأهمية العمليّة الآنيّة أكثر من تركيزها على طرح الأسئلة المجرّدة عن وجود الله. أنجب القرن العشرون الكثير من المفكرين العرب ممن مالوا إلى العلمانية كطه حسين ونجيب محفوظ الحائزِ على جائزة نوبل في الأدب، أمّا عدد الذين وصلوا إلى الإلحاد (سراً أو علانية) فهو محضُ تخمينٍ لا يمكن الجزم به. 22

كان للماركسية أتباعٌ كُثرٌ مِنَ العربِ في العقودِ التي تلتِ الحربَ العالميّةَ الثانيةَ، رافقتها أفكارٌ علمانية طغى عليها فيما بعد صعودُ الإسلام السياسيً، فبالرغم من ميل النّاس للتّعبير عن إلحادهم بطريقةٍ غير مباشرةٍ عبر نقاشاتٍ في الوجوديّة على سبيل المثال، إلا أنَّ الجوَّ في ذروةِ اليساريةِ العربيةِ كان مُهيأً بشكلٍ أكبرَ للتشكيك في الأديان ممّا هو عليه الحالُ في الآونة الأخيرة.

ما زالت "بدرة"، وهي ناشطة نسائية ولاأدرية لبنانيٍّة، تتذكرُ حالاتٍ في كلٍّ من لبنان وسوريا؛ "حيث لمْ يكنِ الإلحاد في عزلةٍ، بل في مجتمعاتٍ" وتضيف قائلةً:

"لمْ أكنْ جزءاً من هذه المجموعات، إنّما كان لي أصدقاءُ فيها، وعندما انتقلت للعيش في بيروتَ اكتشفتُ عالَماً موازياً فيه جيل من البشر ينتمون إلى هذه الخلفية ممن نشؤوا ضمن هذه المجموعات الشبابية اليساريّة وتربوا على هذه القيم، خصوصاً فيما كان يسمى "الحركة الوطنية اللبنانية" التي ضمّت كلاً من الحزب الاشتراكي برئاسة كمال جنبلاط والحزب القومي السوري الاجتماعي والشيوعيين.

أضف إلى ذلك أنَّ الإلحاد، وإنْ لم يتمَّ التعامل معه كموضوع بحدِّ ذاته، إلا أنَّ المثقفين الذين نشطوا خلال فترة الحرب الأهلية كانوا يتبنَّون الفكر العلماني ويحرضون ضدَّ الأديان في مواضعَ كثيرةٍ. وكانت الحياةُ الثقافيةُ في بيروت تزخرُ بالأمثلة والإشارات إلى الوجودية والعبثيّة، وخاصةً المسرحُ التجريبيُّ في ستينيات القرن العشرين، ثمّ خلال الحرب الأهلية، ممّا أثر في ثقافة الدول العربيّة في ذلك الوقت. ويصوِّرُ أدبُ الحربِ الأهليةِ اللبنانيّةِ الكثيرَ مِنَ الآراء الإلحادية." 23

كانت خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كما يرى "شيلكي"، حقبةً ساد فيها تفاؤلٌ كبيرٌ يُعوَّلُ عليها مستقبلٌ اشتراكيٌّ تقدميٌّ، حيث كان التديّنُ في تراجعٍ بين السّكان المدنيين من ذوي الثقافة العالية، في كلٍّ مِنَ الشرق الأوسط وجنوب آسيا، إلّا أنِّ هذا الأمر تغيّر لاحقاً مع صعود الحركات الإسلاميّة في المنطقة وانهيار الشّيوعيّة في أوروبا الشرقية. برغم ذلك كله كان "شيلكي" يرفض، إلى حدٍّ ما، سعيَ الماركسية لمواجهة الدّين، فقد كانت الآراء الإلحاديّة، وإنْ تمَّ الإشهار بها، تعكس غرورَ النخبة أكثرَ مِنِ اتِّخاذِها شكل العدائية البغيضة لرجال الدّين في أوائل القرن العشرين." على العموم، نادراً ما روّجَ الشيوعيون والاشتراكيون للإلحاد علناً في الدّول المسلمة، ويقول "شيلكي": "على العكس من ذلك، فعادة ما كانوا يحاولون مواجهة الدّعاية المناهضة للشيوعيّة بقولهم إنَّ الإسلام، إن تم فهمه فهماً صحيحاً، يوافقُ الاشتراكية تماماً." قد يكون هذا موقفاً تكتيكياً لتجنب المواجهة المباشرة مع الدّين، إلا أن "شيكلي" يرى أنّ هذا الموقف ينسجم في الواقع مع معتقدات غالبية الشّيوعيين في العالم الإسلامي. 24

كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية تمثل النموذجَ التاريخيَّ الوحيدَ للحكم الماركسيّ اللينينيّ في الشرق الأوسط، حين تأسَّست في جنوب البلاد، وذلك بعد انسحاب بريطانيا من عدن سنة 1967م، وكانت حكومة هذا البلد تطمح إلى بناء مجتمعٍ "عقلانيّ اشتراكي" في أرض أسلاف عائلة أسرة بن لادن، إلا أنّها وجدت نفسها مضطرةً لمواجهة مسألة كيفية التعامل مع الإسلام، فاتخذت إجراءاتٍ صارمةً، وعنيفة أحياناً، ضدّ المؤسسة الدّينية كتأميم الأوقاف وتوظيف رجال الدّين لدى الدولة.

بإحكام سيطرته على المؤسسات الدّينية، انتهج النظامُ القائمُ نهجاً معقداً، عملاً بمشورة من الكتلة السوفييتية على ما يبدو، ويقال أنَّ اللجنة المركزية للحزب الوحدويّ الاشتراكيّ في ألمانيا الشرقية قد أوصتِ النظامَ اليمنيَّ بما يلي:

"إنَّ الدّين يُستعمل كسلاح ضدّكم، فلما لا تستعملون السلاح ذاته ضدَّ أعدائكم؟ لماذا تتخلون عن المبادرة لحساب الرجعيين والانتهازيين؟ لم لا تكون المبادرة للتقدميين؟ لم لا تقولون إننا ضدّ الرأسماليّة الاستغلاليّة؟ وقولوا في نفس الوقت إن سيدنا محمداً كان ضدّ الرأسمالية الاستغلالية؟ فما من قاضٍ ولا فقيهٍ يقدر على الإتيان بنصٍّ قرآنيّ أو حديث نبويّ يثبت أن النبي محمد كان يؤيد الرأسمالية الاستغلالية، فالواقع أنه كان ضد الاستغلال." 25

دفع ذلك حكومةَ اليمن الديمقراطية الشعبية إلى الترويج لنمط من الإسلام الاشتراكيّ يُحتفَلُ فيه بعيد ميلاد "لينين" إلى جانب العديد من الاحتفالات الدّينية التقليدية. من وجهة نظر النظام الرسميةِ لم يكن هنالك أي تناقضٍ حقيقيٍّ بين الاشتراكية والإسلام، رغم غياب الإجماعِ على هذا الأمر كما كان يبدو في اليمن الجنوبي، فقد كان هنالك إسلامٌ للأغنياء وآخَرُ للفقراء كما يقول سليم صالح محمد، الشخصية البارزة في الحزب، فالفقراء يرَون أنَّ الإسلام نادى بالعدالة الاجتماعية ووضع حدّاً للاستغلال، بينما الأغنياء يستغلون الدّين "لتحقيق أهدافهم الرجعية الخاصة على حساب منفعة الشعب وكدحهم،" 26 كما وفّر ذلك أساساً لسياسةٍ خارجيةٍ صورت الإسلامَ على أنّه عُرضةٌ للتهديد من قبل الامبريالية، رغم أنَّ اليمن الجنوبي في الحقيقة كان هو البلد العربيّ الوحيد الذي أيَّدَ الغزو السوفييتي لأفغانستان سنة 1979م، واستمر في دعمِ النظام في كابول ضدّ المجاهدين فترة من الزمن.

كان هنالك بعضُ أوجه الشَّبَه بين هذا النوع من الإسلام الاشتراكيّ في اليمن الجنوبي وبين الحركة "اللاهوتية التحريرية" الكاثوليكية الرُّومانية التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، والتي كان اهتمامها مُنْصَبَّاً على الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، مما دفع الفاتيكان إلى اعتبارها حركةً سياسيةً بحتةً تنقصها الروحانية. وفي دراسة عن التعايش الهشّ والمضطرب بين الإسلام والدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، علّق "نورمان سيجار" بالقول "إنَّ الاشتراكيين اليمنيين تعاملوا مع الإسلام كظاهرةٍ اجتماعيةٍ اقتصاديةٍ معنيةٍ بعالَمنا فقط، في حين أنههم تجاهلوا أو ربّما همّشوا الجوانب الأُخرى من الإيمان." 27

وعلى الصّعيد المحليّ، سعى الاشتراكيون إلى تقليصِ دور الدّين في الحياة اليوميّة كلما أمكنهم ذلك، فتمَّ استبدالُ قانون الشريعة بقوانين علمانية في معظم المناطق، بما في ذلك قانون الأسرة، إلا أنَّ النظام تراجع عن إلغاء قانون الميراث المستنِدِ إلى الشريعة الإسلاميّة. كان إصلاحُ قانون الميراث من أولوياتِ الاشتراكيين باعتباره لا يكفل المساواةَ في تقسيم الثروة، لكن حالتْ مخاوفُ من أنْ لا يقبلَ الشعب بالأمر دون إصلاحه.

في البلدان العربية، كانت صحفُ اليمن الجنوبيّ هي الوحيدة التي لم تنشر مواقيت الصلاةِ أو الصيامِ في شهرِ رمضان، إلا أنّها كانت تسمح، ولو على مضض، بالصيام في شهر رمضان، وكان التلفزيون الرسميّ يبث برامجَ عن الطّبخ في وقت صيام المسلمين، وسادَ تذمرٌ مِمَّنْ كان يتغيّبُ عن العمل في شهر رمضان. وفي ذلك تقول "سيكار":

"كانت وسائل الإعلام الحكومية تنتقد باستمرارٍ تأخرَ الموظفين في القطّاع العامِّ عن الوصول إلى عملهم بحجّة أنّهم متعبون من سهر الليلة الماضية، وانصرافَهم من العمل باكراً بعد القيام بقسطٍ قليلٍ من الأعمال فقط. ويذكر أيضا أنّ الكثير منهم كانوا يتظاهروا بالمرض كي يتغيبوا عن العمل." 28

قُبيلَ توحُّدِ شطريّ اليمن ووصول الماركسيين إلى سُدَّة الحكم سنة 1990م، كتبت "سيكار":

"رغم سعي الدولة إلى غرس نظامٍ ذي عقيدةٍ ماركسيةٍ، إلّا أنّ القسم الأكبر من سكان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كان لايزال، على ما يبدو، عميقَ التأثّرِ بالإسلام بشكله التقليديّ، إلا أنّ مؤشراتٍ قويةً تشيرُ إلى أنَّ السكان عموماً كانوا منقسمين حول نظام الحكم، حتى أنّ القيادةَ ذاتَها اعترفت بوجود هذه الثغرة في شرعيّة حكمها، فقد اشتكى علي سالم الِبيضْ، على سبيل المثال، وهو الأمين العامّ للحزب الاشتراكي اليمني، في خطابه الأخير، من "العقلية المتخلفة" لأبناءِ شعبه، وادّعى أنّ زمن الشيوخ والسلاطين الإقطاعيّين قد ولّى، إلا أنّ عقليتهم وثقافتهم مازالت كما هي."

لم يكن علي سالم البيض ذاتُه بمنأىً عن تأثير هذه العقلية، فقد تمّ تعليقُ جميعِ أنشطته في الحزب بين عامي 1979 و1980م بسبب ممارسته لحقّه بالزواج من زوجةٍ ثانية. 29

أدَّتِ الهزيمةُ المُذلّة للجيوش العربية في حرب حزيران سنة 1967م أمامَ إسرائيلَ إلى تراجعِ القوميّةِ العربيةِ والفكرِ العلمانيِّ الذي طالما صاحَبها، ورأى البعض أنّ هذه الهزيمة العسكرية جاءت عقاباً من الله للمسلمين لانحرافهم عن الطريق الصحيح. ويرى صلاح الدّين المنجّد، وهو باحثٌ سوريٌّ انتهى به المطاف أنِ استقرّ في المملكة العربية السعودية، في كتابه "أعمدة النكبة: بحثٌ علميٌّ في أسباب هزيمة 5 حزيران" أنَّ العرب قد هُزِمُوا في الحرب بسبب "تخليهم عن إيمانهم بالله، لذا فقد تخلى الله عنهم." 30 كما وتُبين عناوين كتبه السياسية الأخرى وُجهة نظر منجد العامة التي تتضمن "بلشفة الإسلام" و "وهم الاشتراكية."

أمّا قسطنطين زريق، السوريِّ المولدِ، فقد قدّم تفسيراً مختلفاً لهزيمة العرب في كتاب نشره في خمسينيات القرن العشرين تحت عنوان "معنى النكبة" يتحدث فيه عن طرد الفلسطينيين من ديارهم خلال فترة إنشاء دولة إسرائيل، وبعد حرب حزيران سنة 1967م نشر كتاباً آخر بعنوان "معنى النّكبة مجدداً" عزا فيه سببَ الهزيمة الرئيسَ في حرب حزيران إلى الرُّكود في المجتمع العربيّ، فقد كان العرب، على حدّ قوله، بحاجةٍ إلى الانتقال من مجتمعٍ يؤمِن بالأساطير، ويُغَلِّب العاطفة والمشاعرَ، إلى مجتمعٍ علميّ وعمليّ وعقلانيّ. 31

وما يثير الاهتمام أنَّ زريق ينحدر من أسرةٍ مسيحيةٍ أرثوذكسية، غير أنّه رأى دوراً إيجابياً للإسلام وإرثهِ الثقافيّ في القومية العربية، بشرطِ فهمِ "الطبيعة الحقيقية" للإسلام، ويرى أنَّ التاريخ بيّن كيف أنَّ الحضارة العربية ما ازدهرت إلا بازدهار الإسلام، وأنها تراجعت عندما اتَّبعَ العربُ الدّين بطريقة عمياء.

ورغم أنّ سنة 1967م كانت تُعَدّ نقطةَ تحولٍ انقلبت فيها الموازينُ ضدَّ القومية العلمانية، إلا أنَّ ذلك لم يتجلى عملياً إلا بعد قيام الثورة الإيرانية سنة 1979م، حين بدأ الإسلام السياسيّ يظهر كقوةٍ أساسية في البلدان العربية، وقد ساهمت حرب حزيران سنة 1967م في تمهيد الطريق لذلك. لقيتْ النظرية القائلة بأن تلك الهزيمة في الحرب جاءت كعقاب من الله قبولاً واسعاً، حيث أعفى ذلك العربَ من الحاجة إلى القيام بأيّ شيءٍ سوى التمسُّك بالدّين بشكلٍ أكبر، فكان لذلك آثار سلبية بدلاً من أن تكون محفّزة.

كانت الصحوة الإسلامية في أواخر القرن العشرين بعيدة كل البعد عمّا كان يصبو إليه الإصلاحيون في المائة عامٍ المنصرمةِ عندما كانوا يوْصُون بتَبَنِّي الأفكارِ "الجديرةِ بالثناءِ" من الدّيانات والثقافات الأخرى، لكنَّ ما ظهر كان ضرباً من عودةٍ بالإسلام إلى عهدهِ الأولِ، إسلامٍ يرفض "البدع والأفكار الغريبة" باسم الأصالة، في الوقت الذي كانت فيه هويّة الإسلام تُبْنَى، في جزءٍ منها على الأقل، على خيالاتِ الماضي، فكان الإصرارُ الشّديد على التفسيرات المتشدّدة للشّريعة الإسلامية أحدَ هذه الجوانب، يضاف إلى ذلك جانبٌ آخرُ هو التدين الواضح جداً، يُتَوَقَّعُ فيه من المؤمنين إظهارُ سلوكٍ إسلاميٍّ قويمٍ من خلال مراعاة قواعدِ سلوكٍ مقررةٍ مسبقاً، والتي كلما ازدادت تشدداً، ازداد تمثيلها للهوية الإسلامية، وبالتالي، زاد شعور مَنْ يلتزم بها بأنهم مسلمون صالحون.

يمكن العثور على تلك القواعد في الكثير من مواقع الأنترنت، كموقع "متّقون على الهواء"، والذي يقدم إرشاداتٍ مفصلةً عن اللباس الشرعيّ للرجال، فيقول إنّ ملابس الرجال يجب أنْ تغطي كامل الجسد دون أنْ تصل إلى الكعبين وألا تكونَ ضيقة، كما تَعتبرُ اللونين الأبيضَ والأخضرَ لونين ملائمين للرجال، على عكس اللون الأحمر، ما لم يختلط بلونٍ آخر، كما تنهى عن إدخال طرف القميص تحت البنطال.32 وفي سنة 2006م، حدث في مصرَ جدلٌ مُلفتٌ عندما حذر الدكتور راشد خليل، وهو خبيٌر بالشريعة الإسلامية في الأزهر، مِنْ أنَّ التعريَ الكاملَ أثناء الجماع يبطل الزواج، إلا أنَّ رجال دين آخرين سرعان ما ردّوا عليه هذه المسألةَ، حتى أنّ أحدهم قال: "يجب السماح بكلّ ما يَزيدُ التقربَ بين الزوجين." كما قال عالم دينٍ آخرُ أنّه يجوز للزوجين رؤية بعضهما عراةً فيما عدا أعضائِها التناسليةِ، ناصحاً بممارسة الجنس تحت غطاءٍ لتجنب الوقوع في مشاكلَ من هذا القبيل. ومن أكثر الأمثلة غرابةً فيما يتعلق بسَنِّ الأحكام الشرعية ما حدثَ في العراق سنةَ 2008م عندما عَمَدَ المتشددون إلى فرضِ عزلِ الخضار على أساس "الجنس"؛ فقدِ ادَّعوا أنَّ الطماطمَ مؤنثةٌ بينما الخيارُ مذكرٌ، لذا فإنّ على بائعي الخضار تجنبُ وضعهما جنباً إلى جنب، وأنّ على النساءِ عدم شراءِ الخيار أو حتى لمسه.33

لا غرابة أنْ تدفع مواقفُ كهذه الناسَ إلى الابتعاد عن الإسلام، في حين يرى آخرون أنّها من أسباب البقاء في ظل الدّين، ولو بالاسم فقط، لكي يتحدوها بفاعلية أكبر، ومنطقهم هنا أنّ الاستماعَ إلى انتقاداتٍ لهذه المواقف أفضلُ، في حال صدرت عن "الإصلاحيين" المسلمين، أو عن المسلمين "التقدميين" أو حتى عن العلمانيين المؤمنين، ممّا إذا صدرت عمّن يرفضون الإسلام رفضاً كلياً، ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ الإصلاحيّين أو العلمانيّين وغيرهم كاذبون، إلا أنَّ من بينهم من يمكن وصفهم بانهم مؤمنون "تكتيكيون" يستحيل تقدير عددهم.

أما غسان عبدالله فقد استعرض أعمال نحو عشرين مفكراً علمانياً في مقال نشره سنة 1999م تحت عنوان "العلمانية الجديدة في العالم العربي"، فكان من الملاحظ أنَّ أيّا منهم لم يوصف في المقالة بالملحد، وعند سؤاله عن السبب، أجاب غسان عبدالله أنه يعتقد أن نسبة كبيرة منهم ملحدون أو منكرون لوجود الله على الأقل، فكثيرٌ منهم كان قد أقرّ بذلك سرّاً، ويضيف قائلاً: "إنّ نقدَ الإسلام في العالم العربي بالكتابة ليس قضيةً سهلةً ولا آمنة، ولكن عندما نقرأ ما يكتبه العقلانيون باللغة العربية فإننا نطوّر فكرة عمَّا كان يقصده هؤلاء الكتّاب عندما يستخدمون أساليبَ محددةً للتعبير عن أفكارهم، وبالتالي يمكننا استبصارُ مواقفهمُ التي لا يجرؤون على البوحِ بها صراحةً." 34

أحد الذين تناولهم مقالُ عبدِ الله هو عبد الله محمد شحرور؛ وهو أستاذ سوري في الهندسة، كان فد نشر بدوره كتاباً سنة 1990م حلّل فيه نصوص القرآن. قادته عشرون عاماً من البحث إلى الاستنتاج بأنّ الدراسة الدّينية التقليدية غيرُ علميةٍ، فاتخذ شحرور موقفاً مناهضاً للإسلام بشكلٍ أساسيّ، وذلك في مسعىً منه للتوفيق بين الإسلام والفلسفة الحديثة ووجهة النظر العقلانية للعلم والعالَم، فكانت رؤيته للشريعة هي أنَّ الحكمَ باسمِ اللهِ كذبةٌ كبيرةٌ يستغلها من يريد الحفاظ على السلطة السياسية 35، ورغم انتقاداته المتكررة للطريقة التي يُمارس بها الإسلام في الوقت الراهن، إلا أنه ظلَّ متردداً في نبذ الدّين بشكلٍ كامل، لكنَّ قبولَه به بدا كخضوعٍ للواقع السياسيّ لا خضوعاً لله. يقول شحرور"

"بما أنّ للدّين دورَه المعياريّ الهامّ في مجتمعات الشرق الأوسط، فإنّي أعتبر تجاهله مستحيلاً، وقد جرَّب الليبراليون فعلَ ذلك، إلا أنهم فشلوا في محاولاتهم إسقاط الصّبغة السياسية الغربية على الدول العربية أو المسلمة، كما أراد الماركسيون فرض العلمنة في مسعىً لتدمير الدّين، ففشلوا أيضاً." 36

ويعتبر موقع "مركز بحوث الدّين" الإلكترونيّ والذي يصف نفسه بأنه "مركز أبحاث حديث إسلامي" مثالاً آخر على ذلك، فبدلاً من نبذِ الإسلام، يقول الموقع أنّ هدفه "تحديثُ رؤيتنا للقرآن وتوسعتها من أجل توضيحِ حالات سوء الفهمِ، وفهم رسالاته وإمكاناته التي تم إهمالها." 37 يقتبس الموقع من القرآن بشكل متكرر ودقيق، إلا أنَّ القائمين عليه يوظفون القرآن في تقديم شيء ما يختلف عن تفسيرات الإسلام السائدة في يومنا هذا، وفي ذلك يقول الموقع المذكور:

"نؤمن بأنَّ القرآن يرفض جميع أشكال الخرافات والعبادة العمياء والتمييز والظلم والعدوان والاستبداد ونظام الحكم الدّيني والتقاليد القمعية، كما نؤمن بأنه يوفر ويدعم الأطرَ العلميةَ غيرَ المتزمّتة والديمقراطيةَ والاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والعالميةَ التي تُفضي إلى حلٍّ مشاكل الإنسان المتعلقةِ بالحرب والقمع والجوع والعنصرية والتمييز والتخلف والجريمة التي رافقت الإنسان منذ النشأة الأولى لحضارته."

كما ويتفادى الموقع الإلحادَ الصريحَ من خلال إعادة تعريف الله فيقول:

"نحن لا نؤمن بالإله كما يراه التيارُ الرئيسُ في الأديان، بل نؤمن بإله، أو بالأحرى بقوةٍ لا ندركها، ليس له شكلٌ أو مكانٌ، وليس له في المحصلة أيّة منفعةٍ شخصيةٍ، لكنه في الوقت ذاته لا يتلاعب بالبشر تلاعُبَ الملكِ المستبدّ الطاغية. ونحن لا نؤمن بالعبادة التخليصية، أو بأمورٍ خارقة للطبيعة؛ سيكون في هذا العالم مفاجآتٌ للإنسانية، لا حصرَ لها؛ إلا أنها جزءٌ من خَلْقٍ واحدٍ، فالله هو الكاملُ الذي لم يُخلَق." 38

إنَّ للنُسَخِ التقدمية من الإسلام الكثيرُ من الخصائص النّمطية، أهمّها أنهم يناقشون نظرتهم للقرآن من الناحية التاريخية على أنّ أحكامه التي كانت تنطبق على زمن النبي يجب أنْ تُفَسَّرَ اليومَ على ضوء الظروف المتغيرة، وهذا مناقضٌ لوجهة نظر الإسلاميين المؤمنين بوجوب التزامِ القرآن حرفياً لا تاريخياً، وأنّ رسالته لا تتغيّر بتغيرِ الزمان والمكان، كما ويميل المسلمون التقدميون إلى رفض مرجعية الأحاديث النبوية، ويرفضون الشريعة إذا ما مورست بشكلها التقليديّ ويفضلون الدولة العلمانية عليها.

إنَّ غيرَ المؤمنين الذين قابلْتُهم لغرض تأليف هذا الكتاب منقسمون حولَ ما إذا كان إصلاح الإسلام ممكناً، فقد رأى البعض، أو تمنّى على الأقل، أنْ يكونَ ذلك ممكناً. يرى جمال، وهو ملحدٌ مصريٌّ، أنَّ الإصلاح ممكن جداً، إلا أنه لم يكن مقتنعا بفكرة أنّ هنالك نسخ معتدلةً للإسلام وأخرى راديكالية، وعدّها قضيةَ اختلافٍ بين الدعاة في طريقة تقديم الدّين "لكي تلائم همومَ ومخاوفَ شرائحَ معينةِ من المجتمع." 39 أما "بدرة" الكاتبة اللبنانية المناصرة للمرأة فتقول: "أنا لا أؤمن بإسلام أكثر ليبيرالية، فهنالك الكثير من الحركات الجديدة التي تشير إلى نصرة الإسلام للمرأة؛ لكنني لا أؤمن بذلك، وربما يعزى السبب في ذلك إلى أنَّ أول تواصلٍ لي بالنصّ القرآني لم يكن إيجابياً تماماً، ولا يمكن للمرء أنْ يجمع بين أنْ يكون مسلماً صالحاً - أو إلى حدٍّ ما مسيحياً صالحاً - ونصيراً للمرأة في الوقت نفسه".40 أما "أحمد سعيد"، وهو يمنيّ، فيقول إنه كان مسلماً تقدمياً جداً قبل أن يرتدّ عنِ الإسلام، وهو اليومَ أكثرُ ريبةً في إمكانية النجاح من ذي قبل، ويقول في ذلك: "لطالما وَقَرَ في قلبي أنّ في الإسلام عيوباً، لذا علينا إصلاحُه وتطويره، كما أنّ علينا أنْ نعزّز إنسانيتنا وأنْ نكون أكثر تحضراً؛ إلا أنّ الحلّ لم يأتِ بنتيجةٍ مع الكثير من المسلمينَ، فقد غُسِلتْ أدمغتهم بشكلٍ كبيرٍ. أعتقد أنّ التعليم هو الحلّ، فإنْ وفّرنا للمسلمين تعليماً قوياً وشاملاً، سيكتشفون لاحقاً أنّ علينا أنْ نكون بشراً قبل أن نكون مسلمين." 41

سُئِلَ الملحد المغربيّ قاسم الغزالي في مقابلةٍ أجرتها معه إحدى المجلات فيما إذا كان يعتقدُ بإمكانية إصلاح الإسلام، كما هي حالُ بعض الطوائفِ المسيحية، فأجاب:

"لا يمكن في رأيي إصلاح أو تنوير الإسلاميين السُنَّةِ أو الشيعة لأنه لا توجد كنيسة لإصلاحها، ففي الإسلام نحن خاضعون لسلطة وتعاليم كتاب مقدّس، وهويتُنا وفهمُنا لأنفسنا ينبُعانِ من القرآن، ولو أنَّ المسلمين تمكنوا من استخدام عقولهم، دون الرجوعِ إلى كتابٍ يعتقدون أنه كلام الله، لأمكنننا التحدثُ حينها عن التنوير." 42

إنَّ القرآن هو النقطة التي يتقاطع عندها الملحدون والإسلاميون الإصلاحيون؛ ففي الوقتِ الذي يتَّفقون فيه على العلمانية، يستمدُّ الإصلاحيون حُججهم في العلمانيّة من النصّ القرآنيّ، وبقدر ما يحاولون إعادةَ تفسيره ليلائم عالمنا الحديث، إلا أنّ القرآن يبقى السلطةَ أو المرجعية التي يلجؤون إليها في نهاية المطاف من أجل إثبات صحة آراءهم، وفي ذلك يختلف معهم الملحدون اختلافاً كبيراً."

الفصل الثالث


الإشعار القانوني

تمّ نشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2014 تحت عنوان "Arabs Without God" وهو متوفر بنسختين ورقيّة والكترونية على موقع Amazon.com

ونُشرت الترجمة العربية للكتاب بموجب ترخيص Creative Commons) CC BY-NC-ND 4.0) ما يعني أنّ بالإمكان نسخها وتوزيعها في أيّ شكل، لكن لأغراض غير تجارية فقط. يمكن الاطلاع على الشروط والأحكام الكاملة هنا:

https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode